في عالمٍ مجنون تضربه العواصف المطرية صيفاً وتحتجب عنه خيرات الشتاء في موسمها، بات من الطبيعي أن نرى ما يوازيها من عواصف عسكرية وسياسية، كان آخرها طرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مؤتمر صحفي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في واشنطن صفقة جديدة لإنهاء الصراع العربي - الإسرائيلي، يمكن وصفها بأنها تُمثّل مشروع "نكبة جديدة" لإنهاء القضية الفلسطينية وتصفيتها، بالرغم من أنّ ترمب وطاقمه يُروّجون لها على أنّها خدمة إنسانية تفيد بإيجاد حياة لائقة للفلسطينيين تنقذهم من الموت والدمار.
من يتأمل تفاصيل هذه الصفقة يدرك أنّها لا تندرج ضمن إطار الأفكار العابرة أو المقترحات الدبلوماسية التقليدية، بل تتجاوز ذلك لتكشف عن نية واضحة لتغيير جذري في الواقع السياسي والجغرافي الفلسطيني والعربي، وتعكس تحولاً استراتيجياً في رؤية ترامب وفريقه من الإنجيليين الصهاينة المتطرفين تجاه القضية الفلسطينية، والذين يسعون إلى تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها الأصليين، مستغلين في ذلك ظروف الحصار والحرب والمعاناة التي يعيشها الفلسطينيون لدفعهم نحو القبول بأي مخرج يضمن لهم الحد الأدنى من الحياة، ولو كان على حساب وطنهم وهويتهم.
من الناحية العملية، تحمل صفقة ترامب محاولة لإعادة إنتاج سياسات أميركية قديمة بثوب جديد أكثر جرأة ووقاحة، لإعادة رسم خريطة المنطقة وفق مقاسات إسرائيل وأحلام نتنياهو والمتشددين الصهاينة، والتي تقوم على رؤية الفلسطينيين يُطردون من جزء مهم مما يعدونه أرض إسرائيل المقدسة. إذ تعتمد هذه الصفقة، التي تُعد إحياء لفكرة سبق أن طرحها جاريد كوشنر صهر ترامب، قبل قرابة عام، أثناء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والتي دعا فيها إلى التطهير العرقي للفلسطينيين، بنقل سكان غزة إلى النقب بسبب القيمة العالية لعقارات ساحل القطاع، على فكرة "إغراء" سكان قطاع غزة بمشاريع اقتصادية ضخمة، تتضمن إعادة الإعمار وتحويل القطاع إلى وجهة سياحية "ريفييرا الشرق الأوسط"، مقابل تهجيرهم والتخلّي عن حقوقهم السياسية والجغرافية، وتوسيع السيطرة الإسرائيلية على القطاع والضفة الغربية.
إقرأ أيضاً: محددات الرد الإيراني على إسرائيل
وعليه، فإنّ صفقة ترامب تعد بمثابة استمرار للنهج الذي يعتقد به، والذي يتأسس على شطب الفلسطينيين من كل المعادلات السياسية، في تماهٍ كامل مع نهج حكومة نتنياهو المتطرفة، بدءاً من دعم إسرائيل مالياً ودبلوماسياً وعسكرياً، وصولاً إلى فرض السيطرة على قطاع غزة، وتحويله إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"، بعد تهجير سكانه ونقلهم إلى مصر والأردن، ودول أخرى.
وما يجعل هذه الصفقة أكثر خطورة هو توقيتها وتقديمها كخيار وحيد لا يقبل النقاش، مستندة إلى حالة التراجع العربي والانشغال الإقليمي بملفات أخرى، ما يسهل فرضها كأمر واقع دون الحاجة إلى إجماع دولي أو تفاوض حقيقي، ومما يعزز ذلك أيضاً، الدعم المطلق الذي تقدمه إدارة ترمب لأكثر حكومة متطرفة في تاريخ الدولة العبرية، والتي باتت ترى نفسها في موقع قوة يسمح لها بفرض شروطها دون تقديم أي تنازلات تُذكر، سواء فيما يخص القدس أو الاستيطان أو حتى حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، وهذا يعني أنّ التوسع الإسرائيلي لم يعد مجرّد طموح، بل هو مشروع عسكري قائم تُرسم على أساسه الاستراتيجيات طويلة الأمد في أميركا وإسرائيل.
وبالتالي، فإنّ ما يُروّج له أميركياً كخطة لإنهاء الصراع العربي - الإسرائيلي، لا يعدو كونه امتداداً لعواصف سياسية سابقة، تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية عبر أدوات جديدة وتحت غطاء التنمية الاقتصادية والازدهار المشترك، وتحويل الفلسطينيين من أصحاب أرض وقضية إلى مجرد سكان يبحثون عن فرص معيشية في أي مكان متاح، وهو ما يجعلها أقرب إلى فرض أمر واقع جديد بدلاً من تحقيق سلام عادل ومستدام.
إقرأ أيضاً: الشُعوبيون الجُدد
ختاماً، يمكن القول إنّ "ريفييرا ترامب" تُمثل انتكاسة مزعجة لحل الدولتين، ولكافة الجهود المبذولة من أجل التوصل لحل شامل وعادل، كونها تحمل ملامح التصفية النهائية للقضية الفلسطينية، وتعيد إحياء سياسات الطرد الجماعي وإعادة رسم الخرائط السكانية والجغرافية بما يتناسب مع الطموحات الإسرائيلية في الشرق الأوسط، وهو ما يجعل هذه الصفقة أكثر خطورة من سابقتها. لهذا لم يعد ترفاً الحديث بجدية عن مشروع عربي يوحّد الصفوف ويتجاوز الانقسامات البينية ويتبنى مقاربة جديدة تتجاوز بيانات الشجب والإدانة، نحو خطوات عملية تعزز الصمود الفلسطيني وتعيد فرض القضية الفلسطينية على الأجندة الدولية. أي أن مواجهة "ريفييرا ترامب" تتطلب استراتيجية عربية موحدة، تستند إلى دعم اقتصادي وسياسي وإعلامي مدروس، يهدف إلى إفشال أي محاولات لتصفية القضية الفلسطينية، وتعزيز حضورها في المحافل الإقليمية والدولية، باعتبارها جوهر الصراع في المنطقة، وقضية لا يمكن القفز فوقها أو تجاوزها مهما حاولت القوى الكبرى فرض وقائع جديدة على الأرض.