مما شاع على ألسنة المصريين من الحكمة أن "اللي بيقول ما بيعملش"، وتلك الحكمة على وَجَازَتها وعاميتها وشعبيتها تنبئ عن نفاذ بصيرة القوم في نفس الإنسان وطبائعه، فالغضب كالوقود؛ إن وضعته في محرك سيارة سار بك حتى يبلغك مقصدك، وإن أرقته في الطريق وأشعلته لم تستفد منه شيئًا، ولم تصل إلى مبتغاك، ولم تتقدم عن موضعك. وهكذا حال المرء إذا غضب وعبّر عن غضبه بالكلام والتهديد فإنه يهدأ ويخبو غضبه، فيصبح أكثر أمنًا وأقل حدة تجاه عدوه. وقد فقه أهل السياسة في الغرب هذا الأمر، فأقروا بحق التظاهر للغاضبين والمستائين وأصدروا القوانين التي تجعل غضب الجماهير كوقود مهدر على الأرض، فيهدّئ من نفوسهم ويضعف عزائمهم عن العمل.
فهذا من دهاء السياسيين، إذ يدركون أنَّ غضب الجموع غير مأمون العواقب، فإذا تُركوا لأنفسهم تحولت الغضبة إلى شغب، ثم إلى فوضى تهدد كيان الدولة. لهذا سمح لهم "الخواجات" بالهتاف والصخب، بل وحتى الشتائم، دون عقاب، ولكن قيدوا أيديهم بالقوانين لتمنعهم من تجاوز الهتاف إلى الفعل. فيكفي أن تُبلغ الدولة بزمان ومكان التظاهر وعدد المشاركين وشعاراتهم، فتكون قد ملكت زمام الأمور، بينما تهدأ نفس المتظاهرين ويتلاشى غضبهم عبر الهتافات وإحراق الدمى.
كمثل من أراد الوصول إلى أسوان فأهدر وقود سيارته في القاهرة، مُعتقدًا أنه سيصل دون عناء السفر. وفي نهاية التظاهرة، تجدهم قد هدأوا ورضوا بما هو واقع، ويظنون أنهم قد أدوا واجبهم، ثم لا يلبثون أن يستكينوا ويعتادوا الأمر.
إقرأ أيضاً: أكرانيا اللاتينية
ولك أن ترى "لعبة التظاهر" في غزة؛ فالعالم شاهد العدوان عليها، وخرج الغاضبون في مسيرات، ولكن حكوماتهم سمحت لهم بذلك كوسيلة تهدئة. في الوقت نفسه، استمرت هذه الحكومات في دعم العدو بالأسلحة لقتل الأبرياء في غزة ولبنان! فهل أفادت التظاهرات غزة بشيء إلا تفريغًا لنفوس المتظاهرين؟
أما نتنياهو، فقد خرجت مظاهرات في إسرائيل تطالبه بإعادة الأسرى من غزة، ولكنه تجاهلهم، بل وقتل أسرى آخرين. وفي أميركا، قادت "ساندي شاهان" تظاهرات ضخمة رفضًا لحرب العراق بعد مقتل ابنها، فهل استجاب بوش؟ بالطبع لا؛ استمرت الحرب، ولم تُحقق التظاهرات إلا التفريغ العاطفي للأم الثكلى.
إقرأ أيضاً: فُرس وفارس ومفروس
وفي أحداث 2011، لم يُخلَع الحكام العرب نتيجة هتافات المتظاهرين، بل بسبب تحركات أخرى في الخفاء، فالتظاهرات كانت مجرد بداية لخطوات حقيقية قام بها آخرون في الظل. فالهتاف وحده لا يُغير شيئًا إلا إذا صادف مصالح تُسيّره.
إن التظاهرة قد تُجدي في الأمور البسيطة، كإقالة مسؤول محلي، ولكن في الأمور الكبرى لا تكون إلا بداية تحفيزية للعمل الجاد. أما أن تحل التظاهرة محل العمل، فلا ينتج عنها إلا الإحباط والفشل، إذ إنها تُضعف العزائم مع الوقت، ويستغلها أصحاب المصالح لصالحهم.