" فسحة عائلية بعيدة عن الكتابة السياسية ومنغصاتها"
اذا كانت الخصومات العائلية تمثل لحظات انفجار التراكمات غير المستساغة في مسار الحياة الزوجية ورفع مستوى الشجار الى درجات مخيفة وصحوة الخلافات في نفس الزوجين وظهورها للعيان بكل مخاطرها لمجرد إشعال عود ثقاب صغير او شرارة عابرة فقد تحرق كل هذه الأكوام من الأشياء القابلة للاشتعال وربما تكون هذه الحرائق بداية لانفصال الزوجين واتخاذ قرار الطلاق الى غير رجعة.
غير ان العقل الراجح والتأنّي العميق والمراجعة الايجابية يمكنه ان يعيد تدوير تلك المعركة الظالمة الى معركة عادلة وتحويل الاشتباك الى اتفاق والشقاق الى عناق وتطويع الخصام الى وئام مما يسمى في علم النفس التربوي (الاشتباك من اجل الاتفاق).
فلا شيء ضمن الخلافات التي يسببها الشجار يصعب حلّه لو تم إحكام العقل والعاطفة المتّزنة وتسييرها صوب التوافق والتواد، فالحرائق الكبيرة الممتدة يمكن إطفاؤها لو خلصت النوايا الطيبة واتجهت نحو اللحمة والآصرة السليمة، فما بالك لو انبعثت شرارة صغيرة هنا وهناك اذ يكفيها قطعة منديل صغيرة مبللة بالمسامحة والغفران وإحكام العقل وترطيب العاطفة والأحاسيس لسحقها حتى تنطفئ.
وكم من الملاسنات والعويل والصراخ وتبادل الأصوات والزعيق بين زوجين اثنين اختلفا في أمرٍ ما لكنها سرعان ما هدأت وتيرتها لأن الحب دخل بينهما فجأة وأغلق الأفواه بغمضة عينٍ مستعينا بمراقبة العقل وشدّ وثاق الانفلات اللساني والتحكّم العقلاني وإطفاء ثورة الغضب ببلل القلب ومائه الرطيب وتتجسّد المصالحة أمامهما كائنا ضاحكا مستبشرا غاية في اللطف واضعا يدا بيد في مصافحة حارة ينبعث منها دفء التوادّ وملامسة الوداد.
ويبدو لنا ان كل المعارك والخصومات التي اعتدنا عليها في وسطنا الاجتماعي والسياسي هي كريهةٌ وممقوتةٌ باستثناء معركة الحبيبين من اجل معالجة الهفوات والمشاكل التي يسهل علاجها وتعديل المسار وهذه يمكن ان نسميها المعركة العادلة الجميلة بين الأزواج المتخاصمين ولو ارتفعت لغة الكلام والملاسنة وتعالى منسوب الغضب وزاد من حدّه لأنها بالنتيجة سيؤدي في نهايته الى المصالحة والتراضي طالما كان ذلك الخصام محصورا بالتحكّم والاستماع الفعّال لوجهات النظر حتى ولو ارتفع الصوت ونحا نحو الصراخ والزعيق والتشنج والدويّ العالي، فمثل تلك الخلافات تعدّ ايجابية وفرصة لمراجعة النفس وطرح المقترحات الايجابية لطمر المشاكل وإسكات الاهتزازات اللسانية وطلب الهدأة بعد النزاع كأن تقول لخصمك: انا أنهيت كلامي فابتعد عني ودعني الان وحدي أفكر فيما قلتَ وتخاصمتَ من اجله وأعرف مدى فائدته او ضرره.
تلك المساحة الزمنية لفكّ الاشتباك والخلوة مع النفس بعيدا عن الطرف الخصم كفيلة بمراجعة ما قال وما ردّ الطرف الاخر وفرز الهذر والقذع من الكلام، والتبصر بالنافع والمجدي والمصيب ليكون مفتاحا لفكّ كل مغاليق الابواب الموصدة والنوافذ المغلقة لإعادة تهوية البيت رياحا منعشة مبللة بالنسائم العليلة بدلا من الخناق والوخمة وضيق الأنفاس وخلق أجواء صحية من المناخات الأسرية الرائعة.
ليت الزوجين الذين يواجهان بعضهما كخصمين أن يدعا جانباً كلمة "أنت فعلت كذا" و"أنت أسأت التصرف وأنت تصرفتَ عكس ما نريد" حينما يشتدّ هياج الخصام وتتصاعد وتيرة المواجهة وليقولا بدلها "أنا فعلتُ كذا وأنا أقدمتُ كذا من أفعال وسلوكيات وأنا من يؤمّن ترتيب حالة معينة" ولنجعل من المشاعر الغاضبة الى أدوات من الرجاء والسماح والعفو والغفران عن سلوك شاذ وغريب يخدش العلاقات الحميمة بين الزوجين، فإن لغة المخاصمة والمعاتبة ضمن هذا الإطار برفع سبابة أصابع الاتهام "أنت" قد تشعل اليانع واليابس بينما تكون لغة "الأنا" اثناء المواجهة هي إشارة للبناء ومراجعة النفس والثقة بإعادة المسار الى جادّة الصواب والصلح.
مناي ان يكون الخصام والشجار الأسري العابر بين ثنايا الحياة الزوجية طريقا سالكا نحو التراضي وتصحيح الأوضاع الأسرية ومنغصاتها وطمرها بعيدا عن واحة البيت تماما لتنعم أسرنا وعوائلنا في كل بيتٍ بمناخ يعمّه العنفوان العاطفي والمحبة والتوادّ وراحة البال والهدأة بدلا من الصراخ والزعيق والربكة.