حزمةُ إجراءات رئيس الوزراء لشريحة المتقاعدين، وما بُثَّ ما بين السطور من تمويهٍ وتضليل في اللغة والمعاني، وتلوينٍ مُشوَّش عالي التباين بكثرة الفقرات وتنوُّعها، لمَّا قرأتها؛ ذكرني ذلك بما كنت قد قرأته في بعض التعليمات الطبية التي تقول: لا تقلق، قد يكون ضغطك العالي سببًا لبعض الأعراض البسيطة؛ كالخمول والغثيان والصداع وضيق التنفس والتوتر؛ ولكن احذر ربما يسبب الموت. متشابهات بين نتائج الوصفة الحكومية والطبية؛ آمال خادعة يعقبه موتُ مفاجئ!
وهكذا تكون الوصفة الحكومية مجرد وعود زائفة، ومُنجَزات شكلية، ووصفات تخديرية لمحاصرة الإحساس بالألم، وفقدان وعي المتقاعد وتضليله، وعدم الإحساس بجوهر القضية. والنتيجة هي استمرار قتل المتقاعد الحي، وتهميش حياته المعيشيّة، وتركِه في مهبِّ الرياح؛ وسرقة جهد عمره، وإلغاء خدمته من قاموس الولاء والوطنية من خلال راتب مُذل لا يكاد يسد رمقه خلال بضعة أيام معدودات من الشهر، ولا يفي بالتزامات المعيشة المرتفعة التكاليف، بعد ارتفاع سعر الدولار وتقلباته.
كل الحكومات دون استثناء، همَّشت المتقاعد، ونكَّلتْ به تعسفًا وتعذيبًا نفسيًّا؛ وكأنه قد ارتكب وِزرًا، أو خان واجب الوطنية وانقلب على سياسة بناء الدولة. وهيهات!! فهو الذي علَّمهم أبجديات الكتابة والقراءة، وصنع لهم حيثيات الحياة التي يتنعَّمون بها الآن، وبنى لهم تلك القصور التي يسكنونها، وعبَّد لهم الطرق الحديثة التي يسيرون عليها. وملئ بطونهم بالمال و"الثريد" كأنهم يُذكروننا بقول المتنبي: ذو العقل يَشقَى في النّعيم بعقله = وأخو الجَهالَة في الشقاوة ينعمُ.
ولعَمري إن الناس لم يكن ليعرفوا العدل ويستسيغوه إلا عندما واجههم الظلم وواجهوه، وليس من العدل أن تطلب من الآخرين ما لستَ أنت مستعدًّا لفعله. فالعدالة هي الضمير، وقديمًا قالوا: لو أنصف الناس لاستراح القاضي. والعدالة في قوانين التقاعد العراقي مفقودة، وكيف تُوجد العدالة إذا كانت تلك القوانين يصوغها فاسد برؤيته العقيمة وضميره الملوث بجراثيم الحرام، ومصاب بعقدتي (الجوع والمال)؛ فلا تأمل منه أن يقدِّم لك حقوقك بسهولة. هل نسيتم النائب هيثم الجبوري رئيس اللجنة المالية النيابية عندما قال عام (2021): إن زيادة رواتب المتقاعدين ستُصفِّر صندوق التقاعد، وتبيَّن فيما بعد أنه ورفاقه اللصوص وراء "تصفير الصناديق"!
بالمختصر المفيد، هناك عدالة عُطَّلت في فقرات قانون التقاعد، خاصة المادة (13 و14)، وعدالة توزَّعت بطريقة المصالح والإخوانيات والجهاديات لمن لا يستحقها، وهناك تضخُّمٌ مالي يستنزف صندوق التقاعد لصالح فئات على حساب فئات أخرى؛ فضائيون يتجولون بيننا سرًّا لمصالح أحزابٍ ودول. ورواتب تقاعدية مزدوجة، وأخرى وهمية، ورواتب تقاعدية لأفراد من بعض الدول العربية والإسلامية، ورواتب خيالية لمن تقاعد من المسؤولين الذين خربوا الدولة العراقية ونهبوها ثم غادروها ليتركوا لنا حطام مدنٍ متهرئة، حيث يعيش فيها الإنسان مُثقلًا بالفقر والأحزان!
هناك ظُلْمٌ بيِّنٌ في احتساب الراتب والمكافأة بين مَن خدم لأيام أو أشهر أو بضع سنين، وبين من أفنى حياته بالرزق الحلال والنزاهة والولاء للعمل والوطن؛ فتجد أستاذًا جامعيًّا (بروفيسور)، خدمته 25 عامًا، براتب خمسمائة ألف دينار، مثل حالي وآخرين، لأنه من صنف القانون القديم، وآخر مجرور بالنصب والاحتيال والنفاق والجهاد، راتبه يفوق أضعاف راتب العلماء والكتَّاب وصُنَّاع الحياة لأنه من الصنف الجديد.
مفارقات غريبة؛ قوانين في قانون تقاعد يقال إنه موحد!؛ فقرات تُطبق لأهداف مصلحية ضيِّقة، وأخرى معطلٌة حسب أهواء المسؤولين، ونصوص تُفعّل، وأخرى تُقبَر في أرشيف التقاعد، وأخرى " تُشفط" في جيوب اللصوص، و"ترقيع" مستمر لتغيير المواد حسب رغبات الحكومات الجديدة التي عادةً ما تبدأ أيامها الأولى بالأحلام الوردية لتنتهي بأكذوبة "التقشف" و"قيد الدراسة" و"لجان إعدام القرارات"!
لا أريد ظلم السوداني بانتقائية الفقرات؛ فالرجل بدأ بأفعال تُبشِّر ببارقة أمل في تغيير المسار؛ لكن الحزمة الجديدة التي أطلقها بالتنسيق مع هيئة التقاعد، قد تُلبي بعض مطالب الشريحة الجديدة ممن هم على أبواب التقاعد، لكنها تهمل أكثر من ثلاثة ملايين متقاعد ينتظرون الحلم الغائب: زيادة رواتبهم الهزيلة المُذلة، والمصادقة على سُلَّم الرواتب، وتوحيد المخصَّصات، وإعادة الرواتب لمن قُطعت عنهم لأسباب غير إنسانية، ورفع السن التقاعدي بما يتوافق مع سن التقاعد؛ أما المكاسب الأخرى كالسفر وامتلاك الأرض، فهي حقٌّ دستوري كفله الدستور العراقي للمواطن.
إن المتقاعد لا يحتاج للسفر هذه الأيام في ظل أزمة العيش المُضني، والتضخُّم الاقتصادي؛ لأنه مشغول بالبحث عن قُوتِ أسرته وأبنائه، محاولاً إنقاذ نفسه من أوحال الكوارث اليومية التي يعيشها في ظل جنون أجور المستشفيات، والمولدات، ومآسي انقطاع الكهرباء، وأزمات الوقود والغاز، وشطحات الأسعار وتقلُّبات الدولار. رغم أن الدولة غارقةٌ بالنفط والمال والذهب؛ فاحتياطاتها من العملة الأجنبية، حسب المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء، بلغت (115 مليار دولار)؛ حيث وصلت لأعلى مستوى بالتاريخ المالي للعراق الذي لديه أكثر من (132 طنًّا احتياطيًّا من الذهب).
وبينما يثور الناس في الشوارع احتجاجًا على الأوضاع المتردِّية، وبالذات جمهور المتقاعدين؛ يغيب قانون التقاعد عن محاضر مجلس النواب ليحل محله قانون الطيور المهاجرة، وكأننا نعيش في السويد أو الدنمارك. مما أشعل قنوات التواصل الاجتماعي بالتندُّر والفكاهة؛ حيث قال أحدهم: "يابا ناقشوا هجرة المتقاعد وأجِّلوا هجرة الطيور لاحقًا. اعتبرونا طيور صديقة!"، ويرد عليه آخر: "يا معود، البقرة المتقاعدة في سويسرا لها حقوقٌ أكثر من العراقي في العيش والرفاهية، والحصول على الجواز في نفس اليوم"، ويقول مغردٌ آخر بـ (سخرية): "نقول لهم: نريد طحينًا وسكرًا... يقولون لنا: سافروا بتخفيض 25%. وين نروح حتى مقبرة السلام مقبطة“!
ليتذكر أهل السلطة أن الراتب التقاعدي حقٌّ طبيعي للمتقاعد؛ وليس مِنَّةً أو منحةً من أحد، ولا زكاة مال، ولا يندرج تحت باب الصدقات والفتاوى. وتذكروا قول الإمام علي، عليه السلام: برُّوا مَن كان قبلكم؛ ليبرَّكم مَن سيأتي بعدكم!