منذ أن تأسست معظم الكيانات السياسية الحديثة في الشرق الأوسط بعد اتفاقية سايكس- بيكو، حاولت غالبية النُّخب السياسية ومفكريها وواجهاتها من القوى والجمعيات والاحزاب على نقل التجربة الديمقراطية الغربية إلى تلك الكيانات، دونما دراسة التراكم القيمي والديني والاجتماعي المتوارث في تركيباته، ورغم الكم الهائل من الخسائر الفادحة التي مُنيت بها تلك القوى، إلا أنها لم تحقق الحد الأدنى لطموحاتها وما انتجته لم يتعدى ديمقراطية هجينة لا ترتكز على اية قاعدة ولم تتجاوز صناديق الاقتراع الخالية تماما من الرابط الأساسي والمرتكز الأهم الا وهو المواطنة التي تُشكل النسيج المحبوك لمكونات المجتمع، وقد فشلت تماما في ترسيخ تلك الفكرة التي يتمتع فيها الإنسان بحريته الكاملة في التعبير عن الرأي وتقرير المصير والعقيدة والانتماء، ولعلّ تجارب لبنان وتركيا وإسرائيل هي الأكثر قرباً مما كانت تطمح إليه تلك القوى، إلا أنّها للأسف اصطدمت بإرثٍ هائل من تراكمات قبلية ودينية ومذهبية جعلتها وبعد سنوات ليست طويلة في حقل الفشل الذريع، حيث تمزّق لبنان بين القبائل والطوائف، بينما غرقت تركيا في عنصرية تسببت بمقتل وتهجير ملايين الأرمن والكُرد على خلفية مطالبتهم بأبسط حقوقهم الإنسانية والديمقراطية، وفي إسرائيل التي بشّرَ الكثير من مفكريها وسياسيي الغرب بأنها ستكون نموذج الديمقراطية في الشرق الأوسط، فإذا بها تتحول إلى دولة دينية عنصرية مقيتة في تعاملها مع سكانها من غير اليهود.
أما بقية دول الشرق الأوسط وبعد حقبة الدكتاتوريات الحزبية والفردية التي اسقطتها او ساعدت على اسقاطها قوى خارجية استطاعت اختراق جدرانها الداخلية مستغلةً العِداء الشعبي لأنظمتها، كما حصل في كلّ من إيران والعراق وليبيا واليمن وسوريا، حيث تدخلت بشكل مباشر في إسقاط هياكل تلك الأنظمة أو تدجينها ومن ثم الانتقال إلى استنساخ تجاربها الديمقراطية في مجتمعات ما تزال تعاني من إشكاليات بنيوية وتربوية واجتماعية ناهيك عن الصراعات العرقية والدينية والمذهبية التي انتجتها اتفاقيات استعمارية في فرض كيانات ودول على تلك المجموعات، وما يحدث اليوم في هذه الدول من فوضى وفساد وتناحر ناتج أساسي من فرض نظام سياسي على مجتمعات يتشتت فيها الولاء والانتماء بين الدين والمذهب والقومية والمنطقة على حساب الوطن الجامع والمواطنة الرابطة، هذه المجتمعات التي تعتمد في أسس بنيتها التربوية والاجتماعية على الرمز الفردي وحكمه، ابتداءً من الأب ومروراً بشيخ العشيرة وإمام الجامع ومختار القرية والزعيم الأوحد المتجلي في رمز الأمة والمأخوذ من موروث مئات السنين أو آلافها بشخص عنترة بن شداد أو أبو زيد الهلالي أو الزعيم الأوحد أو ملك ملوك أفريقيا أو القائد الضرورة أو سلطان زمانه، حيث أدمنت معظم هذه الأنظمة وأحزابها التاريخية العظيمة على مجالس ملحقة بالقائد الذي لا يناقش.
ومن هنا نستنتج أن أي تغيير خارج التطور التاريخي للمجتمعات بأي وسيلةٍ كانت سواءً بالثورات أو الانقلابات أو التغيير الفوقي من قبل قوى خارجية لن تعطي نتائج إيجابية بالمطلق، بل ستنعكس سلباً ربما يؤدي إلى مردودات كارثية على مصالح البلاد العليا على مستوى المجتمع أو الفرد ولسنوات طويلة جداً وهذا ما حصل ويحصل اليوم في العراق وليبيا واليمن وسوريا، حيث يتمّ فرض مجموعة من الصيغ والتجارب الغربية في بناء نظام سياسي واجتماعي بعيد كل البعد عن طبيعة تلك المجتمعات ووضعها الحالي وخاصةً ما يتعلق بالنظام الاجتماعي والتربوي والقيمي لمجتمعات هذه الدول، ولعلَّ الأهم هو إن صيغة الديمقراطية الغربية ليست من الضرورة أن تكون هي الحل أو العلاج لمشاكل هذه الدول ومجتمعاتها التي تختلف كلياً عن المجتمعات الغربية في الموروثات الاجتماعية والدينية ومنظومة العادات والتقاليد التي تتقاطع في مفاصل كثيرة مع الصيغ الأوروبية لتطبيقات الديمقراطية.
ولو عدنا قليلاً إلى بعض النماذج من النظم السياسية لبعض دول المنطقة لأدركنا كنوزاً كثيرة من تجاربها الناجحة التي أدت إلى تطور المجتمعات تربويا وعلمياً وثقافيا وإدارياً، هذه النماذج تدفعنا للبحث عن سرِّ نجاح تلك التجارب وصيغها في إدارة الدولة التي تواكب منظومة مجتمعاتنا القيمية والاجتماعية والتربوية هذا اليوم، بما يعزز مبدأ العدالة والقيم الخلاقة والحداثة التي تُكرس المعرفة والتطور العلمي والثقافي والسياسي والاقتصادي في نظام يعتمد العدالة والمساواة والمواطنة بما يحترم خصوصياتنا التي نختلف فيها تماماً عن طبيعة وسلوكيات المجتمعات الغربية.