سئمت بلدان الجنوب النظام الاقتصادي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، والذي يستخدم فيه الدولار في كثير من الأحيان سلاحًا.
إيلاف من بيروت: أدلى شخص غير أميركي بصوته في الانتخابات النصفية الأميركية قبل موعدها المحدد: إنه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. هذا هو الاستنتاج الذي يمكن استخلاصه من القرار الأخير الذي اتخذته أوبك بلس بخفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يوميًا، ما أدى إلى زيادة الأسعار. عاقدة العزم على خفض أسعار الغاز وحرمان روسيا من عائدات إضافية لغزو أوكرانيا، توسلت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن المملكة العربية السعودية تأجيل الخفض - لكن من دون جدوى. تسبب القرار في أكبر أزمة أميركية - سعودية منذ توقيع واشنطن الاتفاق النووي الإيراني في عام 2015، بحسب الدبلوماسي الإيطالي السابق ماركو كارنيلوس، في مقالة نشرها موقع "ميدل إيس آي" البريطاني.
يضيف كارنيلوس أن الرياض في طريقها إلى مسار آخر، وهي تنوي الانضمام إلى بريكس وتعمل على زيادة تعاونها مع الصين، وبدأت دراسة غير مسبوقة لتجارة النفط باليوان الصيني بدلاً من الدولار، كما تتخذ الإمارات خطوات مماثلة، حيث زار ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد موسكو مؤخرًا، وقال وزير الطاقة في بلاده إن لا بديل لروسيا في سوق النفط. يقول: "كل هذه الإيماءات عبارة عن عباءات حمراء لوحت أمام الثور الأميركي. فقدت الولايات المتحدة السيطرة على حلفائها التقليديين في الخليج. وبصرف النظر عن المشهد السياسي، يمكن اعتبار المنطق الاقتصادي لقرار إنتاج النفط مبررًا، وليس مدفوعًا فقط بالمصالح الوطنية الضيقة. يمكن أن يؤدي التباطؤ الاقتصادي العالمي إلى خفض الطلب على النفط وزيادة تقلب الأسعار، وبالتالي ترشيد خفض العرض".
وبحسب كارنيلوس، يتوافق القرار أيضًا مع اتفاقية غير مكتوبة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية منذ عام 1945: تحمي الولايات المتحدة المملكة والأخيرة تدفقًا منتظمًا للنفط مع الحماية من التقلبات. لكن منذ توقيع الاتفاق النووي في عام 2015 وعدم استعداد واشنطن للرد بعد تعرض منشآت النفط السعودية للهجوم في عام 2019، لم يُنظر إلى الولايات المتحدة على أنها حامية فعالة.
الخيار النووي
يكتب كارنيلوس: "في ظل الوضع الحالي، يعيد بايدن تقييم التعاون العسكري لبلاده مع الرياض، وينظر الكونغرس في وقف مبيعات الأسلحة وهناك حديث عما يُنظر إليه في عالم النفط على أنه الخيار النووي: ما يسمى بمشروع قانون نوبك، ما سيسمح بمصادرة أصول حكومات أوبك. يُعتقد أن السعودية وحدها لديها استثمارات بقيمة تريليون دولار في الولايات المتحدة. مع ذلك، فإن رد الفعل العنيف في واشنطن يكشف عن صعوبة التكيف مع النظام العالمي الجديد".
يضيف الدبلوماسي الإيطالي السابق: "جعلت ثورة النفط الصخري الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط في العالم. وهكذا انخفض اعتمادها على نفط الخليج، لكن اهتمامها بتجنب تقلب الأسعار لم ينخفض. واقع اليوم هو أن روسيا والمملكة العربية السعودية تديران إنتاج النفط وأسعاره، مدفوعتين بمصالحهما المتقاربة من خلال صيغة أوبك بلس. وبالتالي، التنمر على أوبك بلس ليس بالأمر السهل ولا ينصح به".
تعمل الحرب في أوكرانيا والحرب الاقتصادية العالمية على روسيا على خلق ديناميكيات جديدة وإحياء الديناميكيات القديمة. لا ينبغي أن تتفاجأ مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى إذا كانت محاولاتها المتكررة لفرض حدود قصوى على أسعار النفط والغاز تعتبر من قبل أوبك بلس بمثابة بروفة لكارتل مستهلكي الطاقة. المفارقة الحقيقية هي أنه في عصر يتسم بالانتقال إلى الاقتصاد الأخضر، تمد جميع القوى الكبرى كل أوتار للسيطرة على سوق الوقود الأحفوري.
يتابع: "الأزمة الأميركية - السعودية هي مثال كتابي آخر لما لا ينبغي للولايات المتحدة أن تفعله إذا أرادت تجنب عزل بقية العالم تمامًا. على واشنطن وحلفائها أن يستقلبوا التحول التكتوني: لم تعد المشاكل الأميركية والأوروبية هي مشاكل العالم بأسره. ربما يكون بعض المنظور التاريخي مفيدًا في فهم هذا التحول بشكل أفضل. في عام 1971، أنهت الولايات المتحدة من جانب واحد قابلية الدولار للتحويل إلى الذهب، إيذانا بنهاية نظام بريتون وودز الذي استمر لعقود. أعطى موقف الدولار الولايات المتحدة ما أسماه الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول ’امتيازاً باهظاً‘. أصبح الدولار هو العملة الاحتياطية العالمية للتجارة والتمويل وتسعير المواد الخام والسلع. تسببت العولمة في نمو التجارة والتمويل العالميين بشكل كبير، جنبًا إلى جنب مع الطلب العالمي على الدولار. سُمح للولايات المتحدة بعد ذلك بإدارة عجز وديون ضخمة مجانًا تقريبًا، مع حرمان أي دولة أخرى من فرصة تحويل احتياطياتها من الدولار إلى الذهب، وترك خيار الاكتتاب في سندات الخزانة الأميركية وحدها".
برامج التقشف
بالنسبة لبقية العالم، كما يكتب كارنيلوس، كان هناك تعديل مالي كبير وبرامج تقشف أملاها صندوق النقد الدولي لإبقاء الديون تحت السيطرة، وفقًا لعقيدة إجماع واشنطن. كان هذا هو العمود المالي للنظام العالمي القائم على القواعد بقيادة الولايات المتحدة - وليس نظامًا عادلًا، على أقل تقدير. سئم الجنوب العالمي، بقيادة بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، هذا الترتيب المالي الذي غالبًا ما يستخدم فيه الدولار سلاحًا. ومن ثم، فهي تبتعد عن الدولار ببطء وتنأى بنفسها عن مقاصتي نيويورك ولندن. وفي حين لا تزال هذه العملية في مهدها، فمن المؤكد أنها جارية.
يقول: "تفرض الولايات المتحدة، المنتج الرئيسي للغاز الطبيعي المسال، أسعارًا فلكية على الغاز الذي تبيعه لحلفائها الأوروبيين. لماذا يجب أن تهتم أوبك بلس بشكاوى المستهلكين الأميركيين من مضخات البنزين، في حين أن الولايات المتحدة غير مبالية تجاه حلفائها؟ تؤدي سياسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي برفع أسعار الفائدة لخفض التضخم إلى ارتفاع قيمة الدولار. هذا يسبب مشاكل لجميع اقتصادات العالم بسبب زيادة تكاليف الإمدادات. مرة أخرى، لماذا إذًا على أوبك بلس، وبالتالي على الجنوب العالمي، النظر في المطالب الأميركية بشأن تخفيضات النفط أو معاقبة روسيا؟".
عندما أصدر الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بيانًا بائسًا يصف أوروبا بأنها حديقة وبقية العالم غابة، "فلماذا يجب على الغابة الانتباه إلى المخاوف الأوروبية والأميركية، بشأن الصراع في أوكرانيا أو أي شيء آخر؟ لماذا يجب أن تكون الغابة حساسة تجاه المطالب الغربية بمعاقبة روسيا على استيلائها على الأراضي الأوكرانية بالقوة، بينما يتم التغاضي عن ممارسات مماثلة من قبل دول أخرى وتبقى بلا عقاب؟"، يسأل الدبلوماسي الإيطالي السابق.
التفكير الثنائي
بالنسبة إلى أولئك الذين ما زالوا محاصرين في التفكير الثنائي، الذين يؤطرون السياسة العالمية على أنها مجرد قضية نحن ضدهم، مثل هذه الاعتبارات لا تهدف إلى إنكار المؤهلات الاستبدادية الصلبة للقادة الروس أو السعوديين أو الصينيين، ولا التقليل من مأساة أوكرانيا، بل تسليط الضوء على منظور عالمي صاعد وأوسع.
يقول كارنيلوس: "عندما يرفض القادة وصناع الرأي في الولايات المتحدة وأوروبا مثل هذه الاعتراضات من خلال التأكيد على أن أوكرانيا يجب أن تحظى بالأولوية لأنها تقع في الجزء المتحضر من أوروبا، فإنهم يوسعون الفجوة الثقافية بين الغرب والجنوب العالمي. ولنفترض أن السعوديين يرغبون حقًا في التأثير في الاقتصاد الأميركي من أجل الإضرار بايدن... فلماذا يجب رفض هذا الامتياز منهم والسماح به لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو؟".
على مدى عقود، قبل كل شيء، قبل المجتمع الدولي مبدأ آخر غير مكتوب للنظام العالمي القائم على القواعد بقيادة الولايات المتحدة: الفكرة القائلة إن أي رئيس أميركي، بإرادته، يمكنه أن يقرر من يحق له الحكم في جميع أنحاء العالم. يعلّق كارنيلوس بالقول: "إننا نشهد حاليًا مخاض ولادة نظام عالمي جديد، نظام متعدد الأقطاب. تحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها منع ذلك من خلال التمسك بالنموذج الحالي أحادي القطب الذي لم يعد مستدامًا. إنهم يصورون بشكل مضلل الوضع الحالي على أنه نقطة انعطاف، حيث سيعتمد النظام العالمي المستقبلي على نتيجة المواجهة الملحمية المستمرة بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية".
ويختم كارنيلوس مقالته بجملة معبّر: "تظهر الديمقراطية أكثر فأكثر مهزلة أيديولوجية لتبرير الأجندات الجيوسياسية".
أعدت "إيلاف" هذه القراءة في مقالة ماركو كارنيلوس عن موقع "ميدل إيس آي" البريطاني


