قديماً، وحين أقول قديماً أعني بضع سنوات عاصرها جيلنا الناضج، كانت هناك المحطات التلفزيونية ومن ثم الفضائيات، ولكي تصبح نجماً في مجال ما أو إعلامياً مرموقاً عليك أن تكون مؤهلاً لتظهر على شاشة أهم المحطات الفضائية وتقدم أهم النشرات الإخبارية أو البرامج التلفزيونية التي تستلزم الميزانيات الضخمة مع تكاتف فريق كبير من المعدين والمخرجين حتى تحقق النجاح والإنتشار والشهرة، كان حلماً يحتاج الكفاح والمثابرة.
أما البديل الحاضر فهو "تطبيق"، مجرد تطبيق مثل سناب شات، انستغرام، فيس بوك، وتيك توك. أما هذا الأخير فهو تطبيق اجتماعي لنشر الفيديوهات بين الرواد، حيث يقوم مستخدميه بنشر مقاطع فيديو لمشاركة آرائهم أو لحظات حياتهم أو القيام بمقاطع تمثيلية دون الحاجة لتقييم محتواها من أي جهة كانت!
حصد مشاهير "التيك توك" ملايين المتابعين على هذه المنصة، لكن المدهش أن أكثرهم شهرة هم خبيرات مكياج وعارضات ازياء وفاشينستات أو صانعي محتوى سخيف وسطحي لكنه مسلي!!
هل سمعتم عن "سونا"، نعم سونا، هي كلبة بودل صغيرة لكنها أكثر شهرة ونجومية من أم كلثوم في عصرها، إنها أكثر جاذبية من أي مقال ذكي أو قصيدة مبهرة أو معلومة قيمة، هذا المحتوى المسلي ظريف لكنه ببساطة يسرقنا من من أوقاتنا الثمينة التي كنا نقضي القليل أو الكثير منها في القراءة أو لقاء الأحبة والأصدقاء أو ممارسة هواية.
لم نعد نرغب في تغذية عقولنا بل لا نشعر بجوعها أصلاً، ثم نجد ضالتنا من خلال الإقبال على الأعمال التافهة التي حققت أعلى المشاهدات على منصة اليوتيوب لسبب مجهول أو ربما لم يعد هذا السبب مجهولاً، كيف لا والتطور التكنولوجي فتح الباب على مصراعيه للعديد من التابوهات لتخرج للعلن، فالرجل الذي كان يخجل من التعرف على النساء أصبح بإمكانه ذلك وبسهولة، والمثلي الجنسي الذي كان يخاف لوم واستنكار المجتمع أصبح بإمكانه الاعتراف بمثليته بكل حرية، والفتاة التي كان ممنوعة من الحديث مع الشباب أصبح بإمكانها فعل ذلك، ومن يريد أن يقلي بيضة أو يعد ساندويتش يشارك ابداعاته مع الجميع في "التيك توك"، والنتيجة، فرق شاسع ما بين الماضي والحاضر، الماضي الذي كانت عملية التصوير فيه تتطلب مالاً ووقتاً لتوثيق لحظة تستحق؛ والحاضر الذي أصبح كل منا يملك كاميرا ويصور كل شيء؛ وحين يصور أتفه شيء يكون مرشحاً لأن يصبح نجماً من لا شيء؛ ولا عزاء لمن ينتظر أو يتوقع شىء.