إيلاف: كثيرة هي المؤلفات التي تناولت موضوع العلاقة بين الغرب والإسلام على مدى التاريخ والنظرة التي يحملها الغربيون عن المسلمين بشكل عام، لكن كتابًا صدر حديثًا للمؤرخة فاني كاروف Fanny Caroff يركز على جانب لم يتطرق إليه الباحثون إلا في ما ندر، ويتعلق بالطريقة التي عبّر بها الغربيون عن آرائهم عن المسلمين وعن انطباعاتهم عنهم على مستوى الرسومات والتخطيطات المرافقة لنصوص العصور الوسيطة.
توتر تاريخي
كانت العلاقة بين المسلمين والغربيين متوترة على الدوام، وقد قامت على العداء والتنافس، وتخللتها حروب دموية وصراعات عنيفة، منها ما دار في بيت المقدس مع كل حملة صليبية، ومنها ما رافق التوسع الإسلامي في شرق أوروبا لاحقًا.
الفتوحات عظمة مشوهة بعيون أوروبا العصور الوسطى |
يروي كتاب "عظمة الفاتحين: المسلمون في فن رسم الأيقونات" للكاتبة فاني كاروف (L’Ost des Sarrasins. Les Musulmans dans l’iconographie، منشورات "لو ليوبار دور" 115 يورو، 752 صفحة) يروي قصة حقيقية اعتمدت على أكثر من 600 رسم، عثرت عليها الباحثة في مئات المخطوطات، التي تعود إلى العصر الوسيط، واستخدمتها أدلة على الفكرة التي يحملها الغرب عن المسلم بشكل عام.
وتشير الكاتبة هنا إلى أن فكرة الغربي عن المسلم عامة جدًا وشائعة جدًا، إلى درجة أنها كانت نفسها لدى الغربي المقيم في عكا والمتواصل دائمًا مع مسلمين، ولدى آخر يعيش في باريس، حيث لم يكن هناك وجود لأي مسلم في تلك الحقبة الوسيطة. وقد عبّر الرسامون عن هذه الفكرة في مناسبات عديدة ومتكررة، بل وظلت سائدة على مدى قرون.
نقيض المسيحيين
الخلاصة التي توصلت إليها المؤرخة هي أن رسامي العصر الوسيط عرضوا فكرة أوروبية عن خصومهم المسلمين باعتبارهم ملة مختلفة وغريبة تمامًا. ويمثل هؤلاء الخصوم الطرف الآخر الذي يعني النقيض، أي نقيض المسيحيين، وهم بكل أشكالهم وأحوالهم أناس يستخدمون العنف ضد الغربيين وضد مسلمين آخرين أيضًا.
استخدم الرسامون رموزًا تعبّر عن هذا العنف، من خلال تصوير المسلم بأشكال غريبة، كأن يتخذ شكل تنين أو ضفدع أو عقرب مع استخدام ألوان ملائمة، لاسيما عند رسم الرايات التي يحملها المحاربون وقت القتال. وتلاحظ الباحثة أن هذه الألوان ترمز عادة إلى الخيانة والجنون، مثل الجمع بين الأخضر والأصفر.
العنف يظهر أيضًا في رسومات تصور عمليات قتل أمراء وسلاطين وخلفاء، وعادة ما يظهر هؤلاء المسلمون بلون بشرة أسود وهم يرتدون العمامة، (بدأ رسم العمامة اعتبارًا من القرن الثالث عشر) وهو ملبس غريب بالنسبة إلى الأوروبيين.
ونرى في الرسوم أيضًا نوعًا من التحريف لأشكال الأسلحة التي يحملها المقاتلون، مثل سيوف شديدة الإنحناء أو صولجانات ضخمة.
تلاحظ الكاتبة في الوقت نفسه أن كل هذه الرسوم لا تعبّر عن تضاد أو اختلاف ديني إلا في ما ندر، ولكنها قد تعبّر في أقصى الحالات عن اعتقاد بأن العالم المسلم ملحد، باعتبار أن الغرب لا يعتبر الإسلام دينًا آخر مثل اليهودية مثلًا.
تشويه للتعويض
تعتقد الباحثة أن الخيال والإضافات غير الحقيقية وغير الواقعية التي استخدمت في تصوير الخصوم المسلمين خلال تلك الحقبة سمحت للغرب بأن يرى نفسه بالطريقة التي يريد. فمثلًا لا يمكن تصوير المسلم كفارس مثل الفرسان المسيحيين، ولا يمكن رسمه بشكل إنسان اعتيادي بأبعاد منطقية.
تلاحظ الكاتبة أن بعض الرسومات أقرب ما تكون إلى رسومات كاريكاتيرية تشبِّه المسلمين بحيوانات - بعض الصور تعرض رؤوس خنازير وهي التي لا يأكلها المسلمون - أو حتى بشياطين، وهو ما يعكس حسب رأيها معرفة نسبية بالإسلام.
وترى أن الرغبة في تشويه صورة الطرف الآخر أو الإستهزاء به في أحسن الأحوال قد يكون نابعًا من رغبة الغرب في تعويض أحداث مهمة مثل سقوط بيزنطة أو توسع العثمانيين داخل دول شرق أوروبا.
يذهب هذا التشويه وهذا التعويض إلى حد تصوير خصم مرعب ومخيف، لكنه مهزوم، إذ رسم الفنانون مسلمين وهم يموتون أو يهربون أو قد تحولوا إلى أشلاء.
وتستخدم بعض الرسوم إشارات خفية مثل شكل الوجه وتعابيره، ثم حجم حصان المحارب، وحتى أجزاء من ملبسه، وكلها تهدف إلى خلق انطباع عن دنو شأن المسلمين.
تعرض بعض الرسوم المقاتلين من دون أسلحة وهم يولون الأدبار تعبيرًا عن هزيمتهم، وهي رسوم أعيد استنساخها على مر العقود بطلب من كبار قادة الحملات الصليبية التي تكررت مرات عديدة.
اكتشاف آخر
لكن ومع تقدم العصور بدأ الغربيون يكتشفون حقائق أخرى عن العالم الإسلامي، حسب رأي الكاتبة، التي لاحظت مثلًا اختفاء لون البشرة السوداء، وتوخي الرسامين دقة أكبر في نقل تفاصيل اللباس الإسلامي.
وفي القرن الخامس عشر تحول الشرقي إلى عنصر جذب بعدما اكتشف الغرب مدى الترف والثراء اللذين كانت تنعم بهما الإمبراطورية العثمانية، حتى إن الطبقة الأرستقراطية الغربية راحت تحاول الحصول على مقتنيات وتحف شرقية تفتخر بعرضها في منازلها وقصورها.
هنا بدأ الإستشراق، حسب رأي الباحثة، رغم أن الغرب ظل يعتبر المسلمين غرباء جدًا ومختلفين تمامًا وأفضل مثال على الغيرية. هذه الغيرية التي تغير وجهها بعض الشيء إثر اكتشاف العالم الجديد وظهور أجنبي آخر هو الهندي الأحمر.
بلا أسماء
تبيّن الكاتبة من خلال بحثها أن معظم هذه الرسومات التي خلفها فنانون غربيون في العصر الوسيط لا تحمل أسماء، ولا أحد يعرف من خطها، وهو ما يجعل من الصعب معرفة مدى معرفة هؤلاء الرسامين بالإسلام وبالمسلمين.
ولتجاوز هذه الصعوبة انطلقت كاروف من مبدأ أن الرسامين وكتاب النصوص المرافقة وكذلك القراء والمتلقين لا بد وأنهم كانوا يحملون المعلومة نفسها التي تسهل على الجميع إدراك معنيي الرسومات الظاهر والمبطن من دون حاجة إلى شرح واسع. وتقول الكاتبة إن هذه المعلومة العامة، وهذه الفكرة المشتركة عن المسلمين هو ما أثار اهتمامها بالدرجة الأساس.
تحليل غني
يرى نقاد أن هذا الكتاب يمثل إضافة مهمة إلى أعمال سابقة حللت تاريخ العلاقة بين الأوروبيين والمسلمين، مثل مؤلفات بول بانكور، الذي اهتم بصورة المسلمين في الأغاني الحماسية الغربية خلال الحروب الصليبية.
لكن غالبية الدراسات اقتصرت على النصوص، ولم يعكف أحد على دراسة الصور والرسومات بشكل عميق. وتشير فاني كاروف في مقدمة كتابها إلى شح هذه الدراسات بالفعل، وهو ما يجعل لبحثها أهمية مزدوجة، لأنه يأتي مكملًا لأعمال مؤرخين فرنسيين مثل ميشيل باستورو وجيروم باشيه.
أخيرًا يتضمن البحث الذي يقع في خمسة فصول تحليلات غنية ومعمقة لحوالى 70 رسمًا مع شرح واف لدوافع الرسم واختيار الأشكال والألوان.
أعدت «إيلاف» هذا التقرير بتصرف نقلاً عن موقع «DOCUMENTATION.ERLANDE». المادة الأصلية منشورة على الرابط:
https://documentationerlande.wordpress.com/2017/05/12/les-cles-du-moyen-orient-fanny-caroff-lost-des-sarrasins-les-musulmans-dans-liconographie-fanny-caroff-lost-des-sarrasins-les-musulmans-dans-liconographi/