: آخر تحديث

تأملات في الإطلالة البابوية التاريخية للبنان الجريح

0
0
0

جاءت الزيارة الميمونة للبابا لاوون الرابع عشر في وقت كانت نفوس اللبنانيين قد اقتربت من درجة فقدان الأمل بإصلاح الحال، على نحو يُعيد إلى الوطن رونقه، وإلى الشعب التفاؤل بالخير الذي يُبعد عن الوطن شر أفعال إسرائيل المعتدية، والتي استبقت الزيارة بإيحاءات وتصريحات بنيامينية وشركائه في مسلسل العدوان على لبنان، حول حرب على "لبنان حزب الله" تكون بمثل عدوانه على غزة، الذي لم يتوقف بشكل نهائي وفق مبادرة الرئيس ترمب التي لا تُرضي، كما المأمول، شعب غزة، ولا حتى شعب مناطق في الضفة الغربية، التي بدأت ترى أن ما أصاب غزة على مدى ثلاث سنوات قد يصيبها، بل من المرجح أن تتكرر المأساة ونعيش بضعة أشهر أو بضع سنوات من الاعتداءات على بلدات ومخيمات في الضفة، فضلًا عن تجريف أراضٍ زراعية وتدمير ألوف أشجار الزيتون. شُلَّت أيادي مقترفي هذا الكفر بنعمة من الله، وبالذات الزيتون الذي خصه الله بالآية الكريمة: "والتين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين".

منذ وصوله، كان ارتياح اللبنانيين، بطوائفهم وبرموز العمل السياسي والحزبي، واضح المعالم. ومن جانب الرأي العام اللبناني عمومًا، كان هنالك شعور بأن زيارة سيد الفاتيكان ستُؤلِّم جراحًا سياسية يتواصل نزفها دون أن يكون هناك اقتناع بأن التفهُّم كما التفاهم هما مثل القناعة كنز لا يفنى، وأن أسمى خيار هو في قول الرسول (ص): "من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا".

وقبل وصول البابا لاوون الرابع عشر، ساد شعور لدى كثيرين بأن الرئيس ترمب سيغتنم مناسبة زيارة البابا الأميركي الجنسية، والذي يتبوأ أحد مواطني الولايات المتحدة، وللمرة الأولى، هذا المنصب، فيزداد ترفقًا بلبنان احترامًا منه للحبر الأعظم، وذلك بأن يتخذ المبعوثون الأميركيون إلى لبنان (وتحديدًا براك وأورتاغوس) نهجًا سويًّا فيما يطرحونه خلال المحادثات أو يُدلون به من تصريحات، بعد أن يكون كلٌّ منهما وآخرون في الكونغرس قد زاروا المعتدي الإسرائيلي أولًا، قبل زيارة المعتدى عليه، لبنان. بل إن شعور البعض وصل إلى احتمال أن يكون البابا لاوون الرابع (الأميركي الجنسية) موضع تقدير الرئيس ترمب له، وللوطن لبنان المُهدَّد باستمرار بالعدوان الإسرائيلي، متمنيًا على رئيسه (بحكم المواطنة) وضع حدٍّ لاعتداءات إسرائيل عليه، وترك أمر عقدة السلاح لدى طائفة لتشاور عقلاني بين مالكي السلاح المعتدى عليهم، وبين إسرائيل التي تخشى هذا السلاح، علمًا أنها تتصرف على أساس تجريد جارها اللبناني، كما جارها السوري، من السلاح، دون أن يكون هناك تجريد للسلاح الإسرائيلي، وبحيث يقتصر السلاح لدى جميع الأطراف على الأسلحة في حوزة الأمن الداخلي التقليدي، وبذلك لا يعود هناك مَن يعتدي على الآخر. وهذا سهل المنال في حال ارتضت إسرائيل، وبطلب قابلٍ للتنفيذ من جانب الإدارة الأميركية، التسليم بقيام دولة فلسطينية، على نحو إصرار المملكة العربية السعودية على هذا الحل، من قبل الزيارة التاريخية لولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان إلى البيت الأبيض، وحتى بعد عودته ليعلن للشعب السعودي "ميزانية الحصافة المالية" للعام الجديد.

وبالعودة إلى أن زيارة البابا لاوون الرابع عشر جاءت لتنشر أجواء التفاؤل بالخير، تستوقفنا عبارات قالها يوم وصوله، ثم عند استقباله في القصر الجمهوري، الذي كنا، مثل كثيرين، نأمل لو أن الرئاسة أدخلت بعض التعديل على البروتوكول التقليدي، بحيث يُدعى قطبان لبنانيان يرمزان إلى حالة الضيق المتزايد في النفوس، ولا يكون مبرر عدم الدعوة أن ليست لهما صفة رسمية. والقطبان هما: الشيخ نعيم قاسم، الأمين العام لـ"حزب الله"، كونه يمثّل ما يشبه الإجماع في الطائفة الشيعية، والدكتور سمير جعجع، الذي تستحوذ "قواته" على أكثرية نسبية في الطائفة المسيحية، لا يستحوذ عليها "التيار الوطني" و"حزب الكتائب". وكانت مصافحة كلٍّ من نعيم قاسم وسمير جعجع للحبر الأعظم، كما سائر المصافحين ذوي المناصب الرسمية، ستُحدث تحولًا بالغ الأهمية في مسار الأزمة اللبنانية المتفاقمة، مع الأخذ في الاعتبار نصائح الحبر الأعظم في الكلمات التي ألقاها، سواء في احتفالية القصر الجمهوري أو عند الوداع، وبينهما ما قاله في القداس الإلهي. ولقد بدت هذه النصائح كما لو أنها مطالب يأمل من الأطياف اللبنانية، بشتى مذاهبها وحزبياتها، الأخذ بها، ومنها أقواله:

"الشكر غالبًا ما يغيب عن قلوب الناس بسبب ثُقل الحياة والآلام والمصاعب".

"جمال لبنان يُظلَّل بآلام كثيرة".

"الشكر لله يجب أن يقود إلى تغيير في القلب وإلى التزام فعلي".

"ليس أمامنا إلا طريق واحد، أن ننزع السلاح من قلوبنا، ونفتح انتماءاتنا الدينية على اللقاءات المتبادلة، ونوقظ في داخلنا حُكم لبنان الموحَّد، حيث ينتصر السلام والعدل، ويمكن للجميع أن يعترف بعضهم ببعض".

"يا لبنان، قُمْ وانهض. كُنْ بيتًا للعدل والأخوّة".
"أنتم أقوياء مثل أشجار الأرز، أشجار جبالكم الجميلة، وممتلئون بالثمار، كالزيتون الذي ينمو في السهول، وفي الجنوب، وبالقرب من البحر".

"أحيّي جميع مناطق لبنان التي لم أتمكن من زيارتها: طرابلس، والشمال، والبقاع، والجنوب الذي يعيش بصورة خاصة حالة من الصراع وعدم الاستقرار".

"فلتتوقف الهجمات والأعمال العدائية، ولا يظن أحد بعد الآن أن القتال المسلح يجلب أي فائدة. فالأسلحة تقتل، أما التفاوض والوساطة والحوار فتبني".

ويبقى تقديره للنساء والدور الذي تقوم به المرأة لافتًا، ويتمثل في كلمته التي ألقاها في احتفالية القصر الجمهوري، وكانت النائب ستريدا جعجع حاضرة، فيما الدكتور سمير مغيّب لدواعي البروتوكول، وجاء فيها:

"إن للنساء قدرة خاصة على صُنْع السلام، لأنه يُحسِّن حفظ الروابط العميقة وتطويرها بالحياة، وبين الأشخاص، ومع الأماكن".

كما اللافت أيضًا إسباغ الشخصية اللبنانية بعبارة:

"شعب لبنان المستلهِم صفة ثمينة من تقليدكم العريق. أنتم شعب يحب الموسيقى، التي تتحول في أيام الاحتفال إلى رفض ولغة للفرح والتواصل...".

تلك مجرد تأملات في لحظة بالغة الأهمية والتميّز، عشناها كلبنانيين خلال زيارة هي الأولى خارج الفاتيكان، قام بها البابا لاوون الرابع، الذي أحسسنا طوال ثلاثة أيام بما قاله وأشاعه من أجواء، كأننا على موعد، لن يكون بعيدًا، مع الاستقرار، والانتقال إلى مرحلة "على الأرض السلام، وفي الناس المحبة"... وفي لبنان الجريح في نفسه وعنفوانه، الانتقال إلى مدار الود، ومعاودة ترميم النفوس.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.