هناك واقع لا يمكن وصفه إلا بأنه العبودية الحديثة في أكثر صورها قسوة. عندما نسلط الضوء على مصير أولئك الذين يكدحون في صمت لقطف الفاكهة والخضار التي ستُعرض لاحقًا في رفوف المتاجر الأوروبية اللامعة، وكأنها وُلدت هناك بترفها ونظافتها، لا من عرق الأجساد المنهكة خلف البلاستيك.
في هذا الركن المنسي من العالم، في قلب الدفيئات الزراعية التي تختبئ تحت طبقات البلاستيك السميك، تتكاثف الشمس كما لم تفعل من قبل. الحرارة لا تتسلل، بل تقتحم. البلاستيك لا يعكس النور فحسب، بل يحتجزه حتى يصبح قاسيًا كاللهب. الهواء ذاته يصبح ثقيلاً، يدخل عبر الأنف فيحرق الحلق، كأنما يستبدل الأوكسجين بجمر. لهذا، نادرًا ما يتحدث العمال؛ يخشون أن تنبعث من أفواههم شرارات بدلاً من الكلمات. التنفس هنا يشبه فتح فرن مشتعل، تجاوز حرارة المئة درجة، ثم إدخال وجهك فيه.
الذين عاشوا في تلك البيوت البلاستيكية يعرفون تمامًا ما يحدث للجسد حين يسقطه الحر. الأجساد هناك لا تسقط فحسب، بل تتهاوى كأكياس الرمل، تُسمع لها أصوات مريعة، كأنها بساط يُنفض من شرفة. وبفعل التكرار والتجربة، تعلم هؤلاء التمييز بين جسد رجل وآخر لامرأة بمجرد سقوطه، إلا إذا كان صغيرًا... أو طفلًا... فهم موجودون أيضًا. لا عجب إذًا أن يكذب كثيرون بشأن أعمارهم. الفقر يُعمي، والجوع يدفع حتى الأطفال إلى حمل المعاول.
أحد أولئك الكادحين، قضى سنوات طويلة في أرض النور، مصغيًا إلى أنين الأجساد قبل لحظات من التمزق. لم يكن تموز (يوليو) قد حل بعد، فقط حزيران (يونيو) بدرجات حرارته المعتدلة نسبيًا، ورغم ذلك، كان العمال ينهارون كما تتهاوى قطع الدومينو، بينما ترتطم رؤوسهم بالأرض كإيقاع موسيقي بشع: بوم، بام، بوم... لحنٌ حديث للعبودية، تُعزفه أجسادٌ جافة ومرهقة. ورغم اقتراب شبح الموت، يتواصل الحصاد تحت البلاستيك، لأن الرفوف هناك، في المتاجر البعيدة، يجب أن تبقى مليئة.
أول مرة عانق فيها أحدهم ضربة الشمس، شعر كأن روحه تُنتزع. صداع مفترس يمزق جمجمته، بشرته تشققت حتى بدت كجلد سحلية غينية ذات ألوان نارية. لم يفهم آنذاك سبب تذكّره لتلك السحالي التي كان يراقبها في طفولته، وهي تتسلق جدران البيت الأصفر، لكن بينما كان بين الغيبوبة والتشنجات، قرأ في رأسه أسماء أحبائه، وكأنه يودّعهم... أو ربما كان يستقبل أجداده الذين جاؤوا ليصطحبوه إلى عالمهم.
رفاقه، الذين لم يكن يعرف أسماءهم، حاولوا أن يُبقوه على قيد الحياة؛ بللوا جبهته، وسقوه رشفاتٍ صغيرة من الماء. هكذا تُروى الحياة في الدفيئات: بنقطة ماء، وبأمل واهن.
ومثلما أنقذوه، أنقذ هو غيره لاحقًا. في هذا الجحيم المغطى بالبلاستيك، تُمارس طقوس البعث كما تُمارس الطقوس اليومية. في كل مرة يُعيد فيها جسدًا إلى الحياة، يسأل نفسه: هل ما يملكونه هنا يُعدّ حياة أصلاً؟ ويتذكر ذاك العامل الذي لم تُكتب له فرصة العودة.
كان المسكين ضيفًا جديدًا على أرض النور، لم يصمد كثيرًا. حين أغمي عليه ولم يتمكن هو من إنعاشه، اتُخذ القرار البارد: تركوه عند باب مركز صحي كما تُرمى القمامة، بصمت. لم يكن يملك أوراقًا رسمية، فخاف صاحب العمل من العقوبة، وآثر أن يفقد عاملاً على أن يدفع غرامة. لم يمت فقط؛ بل مُحي اسمه، صار مجرد رقم.
ربما كان محوه بهذا الشكل يخفف الألم عن الباقين، لأن الاحتفاظ بالاسم يعني الاعتراف بالإنسان، وتذكر الإنسان يعني الخوف من أن تكون التالي. لكن تذكره. تذكر كيف تبادلا الشكاوى في الطريق، وتحدثا عن أحلام معلقة. كان المسكين يحمل وطنه على كتفه، كأخ توأم صامت، يجعله يمشي محنيًا من ثقله.
اليوم، صار رمزًا، طيفًا لا يغيب. حين تهب نسمة باردة في عز الحر، حين تتحرك الأوراق رغم سكون الهواء، حين تظلم السماء دون سحابة، يعرف العمال أنه مرّ من هنا. أصبح أسطورة ترد على الأسئلة التي لا إجابة لها.
أما العامل الآخر، فقد مات أيضًا، ولم يعلم أحباؤه إلا بعد أيام. بعضهم يقول إنهم رأوا روحه تُغادر جسده، رغم أن أنفاسه الأخيرة كانت عند باب العيادة. الحقيقة الوحيدة أن حضوره ما زال محسوسًا، كأنه لم يرحل أبدًا.
البيوت البلاستيكية تقتل بلا سلاح. لا أحد يكترث للعطش الذي ينهش الأحشاء. أحيانًا لا يجدون حتى يورو لشراء زجاجة ماء، فيجمعون بقايا من نافورات عامة، يعيدون تعبئتها حتى تتشوه الزجاجات، وتفوح منها رائحة البلاستيك القديم. البعض يربطها إلى خصره، كأنها طوق نجاة وسط بحر من النار.
البلاستيك، عوضًا عن أن يكون حاجزًا واقيًا، تحول إلى مرآة مشوهة تعكس وجه العبودية. ورغم ذلك، ثمة مشاهد داخل تلك البيوت تباغتك بجمالها. اليوم مثلاً، يقطفون الفراولة. لم تعد تفاجئ العمال، لكنها ذات يوم فاجأتهم. أول مرة يشمون عبيرها شعروا وكأنهم فتحوا جرة مربى وسط الصحراء. رائحة قوية، شهية، تُغني عن المذاق. حينها أدركوا كم خسر الناس في الخارج، أولئك الذين يعيشون بلا حواس.
أرض النور... مضيئة نعم، لكنها عقيمة، قاحلة خارج أسوار الدفيئات، حيث لا شجرة تظلل، ولا نسمة تواسي. هي واحة إنتاج لا يعرف طعمها إلا من يزرع ولا يذوق، يبني ولا يسكن، يعيش ولا يُرى.