منذ الثامن من ديسمبر 2024، ومع صعود القيادة السورية الجديدة، اتجهت الأنظار إلى الخارج أكثر مما التفتت إلى الداخل، وكأن الحل يكمن في المؤتمرات الدولية واللقاءات الدبلوماسية. لكن حصيلة هذه التحركات لم تختلف عن الماضي. المفاوضات مع إسرائيل فشلت لأنها بنيت على منطق الضعف، لا منطق الندية. إسرائيل، التي رأت سوريا غارقة في الانقسام والتشرذم، حاولت فرض شروط مذلة، من بينها نزع السلاح والبقاء في أراضٍ محتلة، وإنشاء ممر لمحافظة السويداء السورية بحجة نقل المساعدات، وهي شروط لا تحترم سيادة سوريا ولا كرامة شعبها. كذلك اللقاءات في باريس وباكو ونيويورك لم تثمر شيئاً، لأنها تجاهلت جوهر الأزمة: الداخل السوري الممزق.
الاعتماد على تركيا لم يحقق أي نتيجة ملموسة، بل زاد من تعقيد المشهد. فبينما كانت أنقرة تُقدَّم كحليف أو وسيط، بقيت البلاد تغرق في خلافات ومواجهات داخلية، من السويداء إلى الشمال الشرقي إلى الساحل. الدعم الدولي الذي تتلقاه سوريا الجديدة ليس مضموناً ولا دائماً، ويمكن أن يتبدل في لحظة، ما دام القرار السياسي محصوراً بيد الشرع ورجاله من دون إشراك باقي المكونات. رفع العقوبات وحده لا يكفي، وخطاب في الأمم المتحدة لن يوحد بلداً تتنازعه الطوائف والمصالح المتعارضة.
في الداخل، الأزمة تتفاقم. السويداء تشهد حراكاً متصاعداً يطالب بالانفصال أو بحكم ذاتي واسع بعد عقود من التهميش. الأكراد يمتلكون قوة عسكرية وإدارة ذاتية مدعومة بتحالفات دولية، ما يجعلهم شريكاً لا يمكن تجاوزه. وفي الساحل، تتصاعد أعمال العنف والاغتيالات، ما يكشف عن هشاشة الوضع حتى بين العلويين أنفسهم. اللجوء إلى العنف أو التهديد بالحرب ضد هذه المكونات لن يقود إلا إلى انهيار أسرع للدولة.
لا الاستثمارات الخارجية ولا التبرعات السورية او العربية ستنقذ سوريا ما دامت البلاد غير مستقرة. الاقتصاد يحتاج إلى بيئة آمنة، وهذه البيئة لا تتحقق إلا عبر تسويات داخلية تعيد الثقة بين الدولة ومواطنيها. الطريق إلى السويداء والساحل ومناطق الأكراد أقصر بكثير من الطريق إلى باريس أو نيويورك أو أنقرة، ووعور جبل حوران وشعابه وطوائفه وعشائره يتفوقون على انوار باريس وناطحات سحاب نيويورك وجمال بحر قزوين. الأموال التي تُهدر في الرحلات الخارجية كان يمكن أن تُستثمر في حوار داخلي شامل، يفتح باباً لمصالحة وطنية حقيقية.
قبل أي تفاهمات خارجية أو محاولات استجداء للدعم الدولي، على القيادة السورية أن ترتب بيتها الداخلي. لا يمكن أن تحكم الآخرين وأنت عاجز عن إدارة التنوع في بلدك. العدل أساس الحكم، ومن دونه لن تقوم لسوريا قائمة.
اليوم، سوريا أمام مفترق طرق: إما أن تتبنى مشروعاً وطنياً جامعاً يقوم على دستور جديد يحفظ كرامة وأمن وحقوق جميع المكونات، ويؤسس لدولة عادلة، أو أن تستمر في حكم اللون الواحد المتشدد، وتعيين الأخ وابن العم والمقاتلين الأجانب في مناصب عليا بما يعني البقاء في مربع الخلافات والانقسامات وحركات الانفصال، بعيداً عن أي استقرار أو تنمية أو ازدهار.
سوريا الجديدة لن تُبنى عبر تركيا، ولا عبر تفاهمات مذلة مع إسرائيل، ولا عبر خطابات في الأمم المتحدة، بل عبر مصالحة داخلية شجاعة، وحوار وطني صادق، يعيد بناء الدولة على أسس العدالة والمواطنة. ومن دون ذلك، سيبقى كل حديث عن استقرار أو إعادة إعمار مجرد وهم.