عند خطّ نهاية 2025، تبدو المملكة وكأنها تنهي شوطًا كاملًا من الماراثون وتستعدّ للانطلاق في شوطٍ أخير أكثر سرعةً وتركيزًا. فالمرحلة الثانية من رؤية 2030 (2021 – 2025) أغلقت صفحاتها بأرقامٍ لافتة: اكتمال أو سير 85 بالمئة من المبادرات النشطة على المسار، تحقيق/تجاوز 93 بالمئة من مؤشرات البرامج، بلوغ مساهمة القطاع الخاص 47 بالمئة من الناتج، تجاوز هدف 2030 السياحي مبكّرًا بوصول الزوار لأكثر من 100 مليون، وتضاعف أصول صندوق الاستثمارات العامة إلى ما يفوق 3.5 تريليونات ريال. هذه ليست مجرد إحصاءات؛ إنّها بنية تحتية مؤسسية باتت متاحة للانطلاق في المرحلة الثالثة.
في 2026 ستدخل الرؤية مرحلتها الأخيرة؛ لا لإعادة التأسيس، بل لـاستدامة أثر التحوّل وتعظيم الفرص الجديدة مع مراقبة دقيقة للمبادرات ومواءمة خطط الأجهزة الحكومية مع الهدف الأعلى: اقتصاد متنوع، ومجتمع حيوي، ودولة طموحة.
ماذا أنجزت المرحلة الثانية؟
تسارع التحوّل الاقتصادي: تقدّمت قطاعات السياحة والثقافة والرياضة والترفيه بوتيرةٍ فاقت التوقعات، فصناعة الضيافة باتت رافدًا غير نفطي واضح، وتحوّلت المملكة إلى مقصدٍ لأحداثٍ عالمية ومؤتمراتٍ كبرى.
رفع كفاءة الاستثمار العام والخاص: تضخّم محفظة PIF، واتساع قاعدة الشركات الوطنية المتطلّعة للأسواق العالمية، واهتمام متزايد برأس المال الجريء والتقنيات الناشئة، مع بروز بيئة تشريعية وتنظيمية أكثر استيعابًا للمستثمرين.
ترسيخ صورة المملكة لاعبًا دوليًا بنّاءً: منصة الأمم المتحدة باتت مجالًا حيويًا لإبراز مبادرات تمويلية وتنموية، سواء لدعم الاستقرار المؤسسي في المنطقة، أو لقيادة مبادراتٍ اقتصادية عابرة للحدود.
هذه الإنجازات لا تعني انتهاء الاختبار؛ فمع اتساع القاعدة، تتعاظم مسؤولية الحوكمة والبيانات وضرورة تحويل الاندفاعة إلى إيقاعٍ مستدام.
المرحلة الثالثة (2026–2030): ما الذي ستركّز عليه؟
أولًا: استدامة أثر التحوّل
ستنتقل بوصلة العمل من “إطلاق المشاريع” إلى ضمان جودتها واستمراريتها. هذا يعني أن معيار النجاح لن يكون افتتاح مبادرةٍ جديدة بقدر ما سيكون تحقيق النتائج: إنتاجية أعلى، خدماتٍ أفضل للمواطن، وشفافية بياناتٍ تسمح بالمحاسبة العامة.
ثانيًا: تعظيم الفرص الناشئة
المملكة في قلب تحوّلٍ عالمي في الطاقة، اللوجستيات، الذكاء الاصطناعي، وسلاسل الإمداد. المرحلة الثالثة ستستثمر “نافذة التغيّر” عبر:
مضاعفة الاستثمارات في الطاقة المتجددة والهيدروجين،
تحويل البنية اللوجستية (الموانئ/المطارات/المناطق الاقتصادية) إلى منصات تصدير إقليمية،
توطين التقنيات الرقمية وسلاسل القيمة (الرقائق/الحوسبة السحابية/الأمن السيبراني).
ثالثًا: حوكمة وبيانات وقياس أثر
سيجري تثبيت آليات نشرٍ دوري للبيانات المالية والتشغيلية للبرامج، بما يتيح تقييمًا عامًا ومهنيًا، ويُسرّع “تصحيح المسار” حين يلزم. هذا المنهج هو وقود المرحلة الثالثة.
رابعًا: رأس المال البشري
سيظلّ الإنسان محور المعادلة: تعليمٌ مرتبط بسوق العمل، تدريب مستمر، استقطاب المواهب، وبرامج تمكين المرأة والشباب لضمان أن قاطرة النمو لا تسبق قدرات السوق المحلية على تلبية احتياجاتها.
سيناريوهات المرحلة الثالثة
السيناريو الأساسي — «التسليم الكامل»
تتواصل وتيرة التنفيذ الحالية مع تحوّلٍ منطقّي للتركيز على جودة الخدمات والإنتاجية. ويمتد أثر ذلك في هيكلة سوق العمل، واستكمال إصلاحات اللامركزية، وتحسين كفاءة الإنفاق العام.
سيناريو التسارع — «قفزات نوعية»
يقفز هذا السيناريو عند نجاح المملكة في اجتذاب استثمارات ضخمة في التكنولوجيا المتقدمة (منظومات أشباه الموصلات، الذكاء الاصطناعي) والطاقة النظيفة، مع توسع مشروعاتٍ كبرى (نيوم/البحر الأحمر/الدرعية) إلى مراحل تشغيلٍ عالية القيمة، ما يسرّع تحقيق مستهدفات مساهمة القطاع الخاص ورفع الصادرات غير النفطية.
سيناريو العوائق — «ضغوط خارجية»
يفترض تعرض البيئة العالمية لاضطرابات (جيوسياسية/اقتصادية) أو بطءٍ في إصلاحاتٍ بعينها. هنا سيكون احتياطيّ الأدوات مهمًا: تنويع الشركاء، مرونة مالية، وتوسيع أدوات الحماية الاجتماعية لضمان استمرار الثقة الاستثمارية.
الاقتصاد والقطاع الخاص: من 47% إلى ما بعدها
الدروس المستفادة من المرحلة الثانية واضحة: كلما تمكّن القطاع الخاص، تراجعت البطالة وارتفعت القدرة التنافسية. في المرحلة الثالثة سيبرز ثلاثة ملفات:
رأس المال المنتج: تفضيل الاستثمارات ذات الأثر (local content/التصدير/التقنية).
تمويل مبتكر: سندات خضراء، شراكات PPP، وضمانات ائتمانية لتمويل المشاريع المتوسطة.
تنظيمات تُيسّر الأعمال: تسريع تراخيص المستثمر، رقمنة الإجراءات، وتوسيع المناطق الاقتصادية الخاصة.
الاستدامة البيئية والتحوّل الرقمي: مساران متوازيان
تتقدّم أجندة الحياد الكربوني بالتوازي مع رقمنة الاقتصاد:
بيئيًا: مضاعفة مشاريع الطاقة المتجددة، إدارة المياه والغذاء بكفاءة، وتوسيع الاقتصاد الدائري.
رقميًا: انتشار الذكاء الاصطناعي في الخدمات العامة والصناعة والقطاع المالي، مع منظومة سيبرانية متينة تقي المخاطر وتخلق وظائف نوعية.
هذه الازدواجية (الأخضر + الرقمي) تمنح المملكة ميزة تنافسية في سلاسل القيمة العالمية المقبلة.
البعد الدبلوماسي والاقتصاد السياسي
تزامنت نجاحات الرؤية الداخلية مع دبلوماسيةٍ أكثر فاعلية: شراكات تمويلية، مبادرات إنسانية وتنموية، وقيادة مبادرات في الأمم المتحدة. ومع توسع الشراكات السعودية-الأفريقية والسعودية-الآسيوية، تتحول المملكة إلى مركز ثقل يربط ثلاث قارات، ويؤثر في قضايا الأمن الغذائي والمائي والطاقي وسلاسل الإمداد.
ما بعد 2030: من «مشروع» إلى ثقافة حوكمة
السؤال الأهم ليس «ماذا بعد 2030؟» بل «كيف نضمن أن تصبح الرؤية ثقافة مؤسسية؟». المقترح أن تتجه المملكة إلى:
إطار 2040/2050 يركّز على اقتصاد المعرفة، رأس المال البشري، والابتكار،
مؤشر وطني للإنتاجية يُنشر نصف سنوي،
منصة شفافية موحّدة تجمع بيانات المشاريع والإنفاق والأثر،
مجالس قطاعية يقودها القطاع الخاص بالشراكة مع الحكومة لضبط السياسات حسب الواقع.
توصيات ختامية
تثبيت الحوكمة: تحويل سياسة البيانات المفتوحة والقياس إلى التزام قانوني.
تعميق التنوّع: تطوير سلاسل قيمة صناعية وتكنولوجية تُصدّر للخارج.
تمكين الإنسان: برامج مهارات مستقبلية (AI/Cloud/Cyber) مرتبطة بعقود تشغيل.
صندوق فرص المرحلة الثالثة: موجّه لصفقاتٍ سريعة الأثر تحفّز القطاع الخاص.
إدارة مخاطر ذكية: آلية «مراجعة فصلية» تسدّد مسار المبادرات وتصحّحه سريعًا.
خاتمة
دخلت المملكة مرحلةً جديدة تُقاس ليس بعدد المشاريع المعلنة، بل بمستوى الأثر المستدام على الاقتصاد والمجتمع والدولة. إذا كانت المرحلتان الأولى والثانية قد رفعتا سقف الطموح والإنجاز، فإنّ المرحلة الثالثة هي اختبار القدرة على الاستدامة والريادة… وما بعد 2030 ليس نهاية الطريق، بل بداية تحويل الرؤية إلى ثقافة دولة تعيش وتتنفّس عبر مؤسساتها واقتصادها ومجتمعها لعقودٍ قادمة.