: آخر تحديث

‏أميركا بلا قناع: سياسة بلا أخلاق!

3
3
2

كشف القناع الأميركي. لم يعد أمام المشروع الأميركي في منطقتنا سوى أن يخلع آخر أقنعته. فبعد عقود من الهيمنة التي تتستر بشعارات "النظام العالمي" و"حقوق الإنسان"، جاء تصريح مبعوث الرئيس ترامب إلى سوريا، جيمس جيفري، ليكشف الحقيقة العارية: "لا يوجد شرق أوسط، بل توجد قبائل وقرى".
هذه الهرطقة ليست مجرد زلة لسان، بل تعبير صريح عن عقلية استعمارية تسعى لتكريس التفرقة. هذا التصريح، كما يصفه أحد المعلقين، "نتاج مستعمر عرف كيف يفرق ليسود!"، يكشف نوايا أميركا في تقسيم المنطقة وإضعافها. بعد عقود من الشعارات الزائفة، تخلع السياسة الأميركية قناعها لتظهر وجهها الحقيقي: هيمنة متغطرسة تفتقر إلى الدهاء.

جذور النظرة الاستعمارية

ليست "هرطقة" جيمس جيفري جديدة. لقد دأب الاستعمار القديم، البريطاني والفرنسي، على النظر إلى أمتنا بالنظرة الدونية ذاتها: مجرد كيانات قبلية وطائفية يمكن تمزيقها ووراثتها. الفارق اليوم أن من يطلقها هم من يريدون أن يكونوا ورثة ذلك الاستعمار، لكنهم يفتقرون إلى دهاء أسلافهم. فبينما كان وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، رغم عفن سياساته، قادرًا على نسج معادلات تبدو منطقية في إطار مصالح بلده، فإن وريثيه اليوم يقدمون العفن نفسه بكل صلف وبلاهة، وكأنهم يفتخرون بالجرح الذي كان أسلافهم يخفونه.
هذا التردي هو ما جعل شخصًا مثل دونالد ترامب رئيسًا، وحوله طاقم من المعاونين الذين ينفذون سياسات تدل على انحدار مستوى الفكر السياسي الأميركي إلى الحضيض.

ازدواجية المعايير الأميركية

أبلغ تجلٍّ لهذه العقلية المتردية هو التناقض الصارخ في سياسات دونالد ترامب نفسه. فبينما يتحدث هو وحلفاؤه عن "تهجير" الفلسطينيين من غزة كحلٍّ مطروح، نراه يرفض الهجرة التي تتم في أوروبا، ويسعى لبناء الجدران على حدود أميركا (انظر: د. عبدالعزيز حسين الصويغ، ترمب والهجرة: ازدواجية الخطاب والمعايير، إيلاف، 2025).
إنها ازدواجية المعايير (Double Standard) في أبشع صورها: حق تقرير المصير والهجرة مكفول لشعوب مختارة، بينما شعبنا مُدان إما بالاحتلال أو بالتهجير. هذه ليست سياسة خارجية، بل هي "معايير مزدوجة" أصبحت منهجًا رسميًا، يُدار بكل غباء وعجرفة.

وحدة الأمة تفنِّد الرواية الأميركية

يحاول التصريح الأميركي تصويرنا كأمة ممزقة، "قبائل متناحرة"، لتبرير تقسيمنا المستمر. لكن الحقيقة التي تهز ضمير العالم اليوم هي أن هذه الأمة هي جسد واحد. لقد صنعت حضارة عظيمة، وهي اليوم تهتز على صرخة ⁧‫#غزة‬⁩ ونداء ⁧‫#القدس‬⁩. لسنا قبائل، بل أمة إذا اشتكى منها عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
هذه الحقيقة هي التي تخرج كل يوم في الميادين وعبر وسائل التواصل، وتفضح كذب الرواية الأميركية. بالطبع هناك تحفظات عندي وعند غيري من أبناء هذه الأمة على عدم وصول رد الفعل العربي والإسلامي إلى مرحلة تتعدى الأقوال حينًا، والصمت حينًا آخر.

المقارنة الأخلاقية

لا شيء يعكس هذا التناقض أكثر من مقارنة بسيطة بين مشهدين. في المشهد الأول، تظهر صورة جمعت بين الرئيس البرازيلي ورئيس كولومبيا ورئيس وزراء إسبانيا، في لحظة إنسانية خالصة، حيث يقبّل الرئيس البرازيلي رأس رئيس كولومبيا تضامنًا مع تصريحه الداعي لتشكيل جيش دولي لتحرير فلسطين (انظر: تصريحات جوستافو بيترو، رئيس كولومبيا). هنا نرى الرجولة والشجاعة والإنسانية.
في المقابل، يقفز إلى الذهن المشهد المروّع لرئيس أكبر دولة في العالم، الولايات المتحدة، وهو يدعم بشكل أعمى سياسات رئيس وزراء إسرائيل التي تكرّس الاحتلال والقتل الجماعي، في صورة مجازية تعبر عن الخنوع والتبعية التي تصل إلى حد "تقبيل الحذاء"!
الفارق ليس في القوة المادية، بل في قوة الموقف الأخلاقي.

 

في النهاية، لم تعد "الهرطقة" الأميركية، ممثلة في تصريح المبعوث الأميركي جيمس جيفري خلال ندوة بمعهد واشنطن، مجرد إهانة، بل هي اعتراف ضمني بالهزيمة. اعتراف بأن مشروعهم القائم على التقسيم والنهب قد فشل في كسر إرادة الأمة. لقد تردّت سياستهم لدرجة أنهم لم يعودوا قادرين على إخفاء حقيقتهم. وصورة القادة الأحرار في أميركا اللاتينية وأوروبا، إلى جانب صرخات أبناء أمتنا من المحيط إلى الخليج، تثبت أن منطق القبائل سيندثر، بينما يبقى منطق الحق والجسد الواحد هو الصاعد.
القوة الحقيقية ليست في إنكار وجود الآخرين، بل في الاعتراف بحقهم في الوجود الحر الكريم، وهذه هي المعادلة التي فشلت واشنطن في فهمها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.