: آخر تحديث

هل النجاح يورّث العداوة؟

2
1
1

في كل عصر، وفي كل مجتمع، وُجدت طائفة من الناس لا وظيفة لها إلّا العيش على فتات الآخرين، والتمسّك بدور الظل الذي لا يضيء ولا ينير. هؤلاء هم أعداء النجاح، منبوذون بطبعهم، يَقتاتون على الحقد، ويستمدّون بقاءهم من النيل من الناجحين. ولأنهم عاجزون عن الإبداع أو الإنجاز، لا يرون في العالم سوى ميدان لتشويه صورة المبدع، والتقليل من شأن المتميّز.

تراهم أوّل المصفّقين في لحظة الحزن، يلبسون قناع الودّ ويتظاهرون بأنهم أقرب الأقربين، لكنهم في حقيقة الأمر ليسوا إلّا حُثالة المجتمع، ألدّ الخصام وأشدّ الناس حقداً. نفوسهم تحتاج إلى "تقشير" كما تُقشَّر الثمرة الفاسدة لتُلقى في مزابل النسيان. أمام نفاقهم لا يملك المرء إلا الصبر وتجنّب نظراتهم المسمومة، تلك النظرات التي تعكس هشاشتهم الداخلية وبؤس أرواحهم!

إنهم مسكونون باليأس، محكومون بالفشل، وأفعالهم أقرب إلى العبث المبتور الذي لا يكتمل أبداً. المجتمع وحده القادر على فرزهم ووضعهم في حجمهم الحقيقي، فهو مرآة كاشفة للزيف مهما حاولوا التمويه أو الطمس. وما أخطر أن يتصدّر هؤلاء المشهد وهم لا يحملون إلّا شعارات خاوية وأقنعة مزيّفة، يتقنون لغة الشتيمة والتشويه أكثر مما يتقنون لغة البناء والعطاء.

لقد ابتُلوا بآفات الكذب والنفاق والتدليس. يكذبون كما يتنفسون، ويتلذّذون بتشويه السمعة كما يتلذّذ العطشان بشربة ماء. ومع ذلك فهم لا يملكون ما يخسرونه؛ فالحياة بالنسبة لهم فراغ كبير، يملؤونه بالنباح على الناجحين. لكن الحقيقة، مهما حاولوا إخفاءَها، تظل ساطعة كالشمس، لا تُحجَبُ بغربال.

وليس غريباً أن ترى أمثالهم اليوم يملؤون فضاءات التواصل الاجتماعي، يُلوّثون الصفحات بما يكتبون من أكاذيب واتهامات لا تستند إلى منطق ولا إلى أدنى معايير الأخلاق. تراهم يختبئون خلف شاشاتهم، يطلقون سهام الغيرة والحقد على كل من لمع نجمه، أو ارتفع صوته بالحق، أو أبدع فكرة جديدة. يقتاتون من نشر الإشاعة وتلويث السمعة، وكأنهم وجدوا في هذه الفضاءات ملعباً مناسباً لتفريغ عقدهم النفسية.

إنّهم، ببساطة، يكرهون الامتياز. يخافون من كل إنسان ناجح، من كل موهبة متألقة، من كل وجه جميل أو كلمة صادقة أو فكرة مضيئة. لا يطيقون رؤية تمثال يُبهر العيون ويثير الإعجاب، لكنهم يشعرون براحة غريبة حين يتحطّم التمثال إلى حجارة مبعثرة. منظر الدمار يُطمئنهم، ويجعلهم يعتقدون أنَّ العالم يسير على ما يهوون: بلا تفوق، بلا تميّز، بلا جمال.

وهذا العِداء للنجاح ليس سوى انعكاس لضعف داخلي مزمن؛ فالذين يفتقدون الصفات الجميلة ولا يبذلون جهداً لاكتسابها، لا يجدون أمامهم سوى تحطيم كل من يمتلكها. هم أشبه بمن ينظر إلى بستان مليء بالورود، لكنه بدلاً من أن يقطف زهرة أو يزرع نبتة، يختار أن يدوس على الأزهار ليمحو جمالها.

ولأنهم يعيشون في قاع العجز، فهم يختارون أسهل الطرق: كراهية الناجحين، والاستهزاء بالمتفوقين، وتشويه صورة كل مبدع. فالنجاح بالنسبة لهم مرآة تفضح عجزهم، والإبداع جدار يعكس خواءهم، والتفوّق جرح لا يندمل في ذواتهم الناقصة.

كم من مرّة صادفت شخصاً من هذا الطراز؟ يرى فتاة جميلة فيبتسم ابتسامة ملغومة ويقول: "إنها سيئة السلوك". يرى وجهاً ناجحاً على شاشة التلفاز فيسارع قائلاً: "لقد وصل بالصدفة والنفاق". يقرأ لكاتب لامع فيتّهمه بالفشل أو السرقة أو التملّق. هؤلاء لا يطيقون الاعتراف بقيمة الآخرين، لأن الاعتراف يعني مواجهة فراغهم الداخلي، وهو ما لا يَجرؤون عليه.

إنّ أخطر ما في هؤلاء الأعداء ليس قدرتهم على الإساءة، بل قدرتهم على تسريب الإحباط إلى النفوس الضعيفة. كلماتهم أشبه بسمّ بطيء، تتسلل إلى القلوب إن لم تكن محصّنة بالوعي والإيمان بالذات. وهنا تكمن أهمية أن يتجمّل الناجح بالصبر، وألا يسمح للحقد أن يسرق فرحه، أو يثنيه عن مواصلة الطريق.

فالنجاح الحقيقي ليس مجرد الوصول إلى قمّة، بل هو الصمود في وجه العواصف، والثبات أمام حملات التشويه، وإصرار على أن تبقى الكلمة وفية لنفسها حتى لو خانها العالم بأسره. وفي النهاية، لن يبقى في سجل الأيام سوى الأثر الجميل، أما نباح الحاقدين فلن يتجاوز حدود آذانهم.

إنّ أعداء النجاح موجودون وسيظلون موجودين، لكن قوتهم الحقيقية تكمن في استسلامنا لهم. فإذا تجاهلناهم، وأدركنا أن ضجيجهم ليس إلا تعبيراً عن خواء داخلي، فإنهم سيتلاشون كما يتلاشى الدخان في الهواء. أما المبدعون الصادقون، فهم وحدهم الذين يكتبون التاريخ، ويتركون على جدار الزمن بصمة لا تُمحى.

وبعد كل هذا وذاك، يظلّ السؤال قائماً: هل النجاح يورِّث العداوة؟ في الحقيقة، ليست العداوة ثمرة النجاح، بل ذريعةُ الضعفاء. فالإنسان الذي خوَت روحه، وضاقت آفاقه، ولم يجد في نفسه قدرةً على العطاء، لا يرى في الحياة سوى ساحةٍ لتقليل الآخرين. يرمق المبدع بنظرة استعلاء موهومة، ويُسقط عليه استهزاءً يُخفي داخله انكساراً دفيناً. إنه يُحبط لا لأن الناجح أخطأ، بل لأن نجاحه يفضح عجزه. وهكذا يواصل العيش في خواءٍ يقتات على النيل من الآخرين. غير أنّ الحياة تمضي، ويبقى المجد للذين يُعطون لا للذين يُعادون.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.