لم يعد اليسار العربي اليوم يشبه صورته في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. آنذاك برز كقوة احتجاجية تُلهم الشارع بشعارات العدالة الاجتماعية ومناهضة الاستعمار والدفاع عن الطبقات المهمشة. كانت الجامعات والنقابات والمقاهي فضاءات يتشكل فيها وعي يساري طموح، يستند إلى الفكر الماركسي أو الاشتراكي القومي، ويقدّم نفسه بديلاً عن الأنظمة الرجعية والهيمنة الغربية. غير أنّ هذا اليسار، الذي بدا حاملًا لمشروع تغيير واسع، سرعان ما دخل في مسار تفكك تحت ضغط الداخل وتحديات الخارج.
في الداخل، مزّقته الانقسامات الحزبية وصراعات الزعامة بين قياداته، كما طاردته الأنظمة العسكرية التي احتوت بعض رموزه وأقصت آخرين، على نحو ما فعله نظام جمال عبد الناصر. أما الخارج، فقد واجه فيه خصومة مزدوجة: مع القوى الغربية التي رأته امتدادًا للسوفييت، ومع الأنظمة الملكية التي اعتبرته تهديدًا مباشرًا لاستقرارها وتحالفاتها. ثم جاءت الانكسارات الكبرى في الحروب العربية – الإسرائيلية لتقوض خطابه الثوري وتضعف رصيده في الشارع.
في التجربة السورية – الفلسطينية – اللبنانية تبرز أوضح صور التحول. فمنذ بدايات حكمه واجه حافظ الأسد اليسار السوري، ومعه فصائل فلسطينية ولبنانية، بأدوات مختلفة: قمع مباشر عبر الاعتقالات وتفكيك التنظيمات، واختراقات أمنية، ووصاية على حرية التعبير. وبهذا جُرّد اليسار من استقلاله، ليتحوّل تدريجيًا إلى ملحق بالمشروع الإقليمي السوري – الإيراني. ومن رحم هذا المسار وُلد ما يمكن تسميته بـ«اليسار المتأسلم»: تيارات تبنّت خطاب «المقاومة الإسلامية» واستفادت من التمويل الإيراني المباشر أو غير المباشر، حتى بات خطابها أقرب إلى لسان الولي الفقيه بعد أن كان ماركسيًا أو اشتراكيًا قوميًا. والمفارقة أنّ البندقية التي رفعت يومًا شعار التحرر والاستقلال غدت بندقية طائفية تقدّم الولاء لنظام ولاية الفقيه، وتتنكّر لمطلب التحرر القومي والوطني.
لم يقتصر هذا التحول على الفصائل اليسارية في بلاد الشام، بل شمل أيضًا بعض المجموعات الناصرية التي انخرطت ـ بدافع أيديولوجي أكثر منه استجابة لاعتبارات شعبية ـ في منظومة «المقاومة» التي يقودها محور طهران. وبذلك انتقل جزء من تيار تبنّى سابقًا شعارات القومية والتحرر العربي إلى موقع فقد فيه استقلاله ضمن مشروع ديني – طائفي عابر للحدود، فتحوّل إلى جزء من منظومة التوسع الإيراني. ولم يكن هذا التحول مرتبطًا فقط بالتحالفات الإقليمية أو بالتمويل، بل تأثر أيضًا بموقف عدائي موروث تجاه دول الخليج، وهو إرث تاريخي ورثه بعض الناصريين عن زعيمهم الراحل. وبهذا تداخل البعد الأيديولوجي مع إرث الصراعات العربية – العربية، ما ساهم في فقدان اليسار لصلته بمساره الوطني والعربي المستقل.
أما في المشهد العربي الأوسع، فالصورة لا تقل إرباكًا. ففي مصر وتونس والمغرب والعراق، واجه اليسار انقسامات بين تيارات قومية ونقابية، وتحالفات براغماتية مع الإخوان المسلمين أحيانًا، وارتهانًا للسلطات القائمة أحيانًا أخرى. ومع تراجع مرجعيته الفكرية فقد القدرة على صياغة بديل مستقل، فصار صوته إمّا تابعًا للسلطة أو مندمجًا مع الإسلاميين، مبتعدًا عن شعاراته التحررية التاريخية، إذ عجز عن ترسيخ تقاليد نقدية تُفكك الجمود وتطوّر الممارسة.
ولا يُفسّر هذا الميل بالبراغماتية السياسية وحدها، بل أيضًا بالهزيمة الفكرية والنفسية التي أصابت اليسار بعد عجزه عن بلورة نموذج جاذب. عندها بدا الإسلام السياسي لبعض مثقفيه «القوة الصاعدة» التي قد تتيح لهم إعادة الارتباط بالشارع. غير أن الأزمة لم تكن في التحالفات العابرة بذاتها، بل في غياب الرؤية النقدية؛ اللحظة التي ينحدر فيها المثقف من موقعه التنويري إلى مجرد أداة تبرير، أو شريك صامت في تكريس الواقع المتردي.
بمرور العقود تصلّبت الذهنيات تحت تأثير الأدلجة؛ فما بدأ تكتيكًا ظرفيًا تحوّل إلى عقيدة مغلقة، وما كان وسيلة غدا غاية بذاته. لذلك، يصبح الحديث عن «إصلاح» أو «استعادة الدور» لليسار العربي أقرب إلى الوهم منه إلى مشروع عملي، إذ إن البُنى التي فقدت تماسكها يصعب استعادتها بالآليات التقليدية. اليسار الذي انخرط في تحالفات دينية أو ذاب في راديكاليات متطرفة فقد طاقته على التجدد، وبات أقرب إلى إرث تاريخي منه إلى خيار سياسي فاعل. وإذا كان ثمة أفق، فلن يصنعه إلا جيل جديد يرفض تكرار الأخطاء السابقة.