: آخر تحديث

غياب الديك ويقظة الدجاجة

2
3
2

"البيت الذي تُمارس فيه الدجاجة عمل الديك، يحلّ فيه الخراب".

تطفو هذه العبارة على سطح الخطاب الشعبي بيسر، كما لو أنها حقيقة بدهية، نابعة من عُرف قديم لا يقبل نقاشاً. عبارة تردّدها الألسن بلا تدقيق، لكنها تخبئ تحت سطحها طبقات كثيفة من الرموز، وتحمل في رنينها توتراً عتيقاً بين ما كان وما يجب أن يكون. فهل الخراب حقاً في ممارسة الدجاجة عمل الديك؟ أم أن الخراب أعمق، يمتدّ جذوره في نظرتنا للأدوار، وفي رفضنا للتبدل الذي تفرضه الحياة، وفي خوفنا من المراجعة؟

لنتوقف قليلاً عند الصورة: "دجاجة" تصيح كما "ديك". هذا المجاز الحيواني لم يُخلق اعتباطاً، بل هو تعبير رمزي مشحون، يضفي طابعاً هزلياً على أمر وجودي: تداخل الأدوار داخل البنية الأسرية، وتشوّش النظام التقليدي في مواجهة متغيرات الحياة.

في المجتمعات العربية، كما في كثير من المجتمعات التقليدية، تقوم الأسرة على بنية تراتبية واضحة، يُعهد فيها للرجل بدور القيادة والحماية والإنفاق، وتُمنح المرأة وظيفة الرعاية والاحتواء العاطفي. لم يكن هذا التوزيع ـ في زمانه ـ مجرد نزعة أبوية، بل كان تعبيراً عن واقع اقتصادي واجتماعي؛ واقع لم يكن للمرأة فيه صوت اقتصادي أو قانوني أو حتى جسدي مستقل.

لكن الزمن لا ينتظر أحداً. التعليم، والتمدين، والاحتكاك بالعالم، والحروب، والهجرات، والتقلبات الاقتصادية، كلها جاءت كمعاول غير مرئية، تنقر هذه البنية شيئاً فشيئاً، حتى بات التبدل واقعاً لا يمكن إنكاره. ها هي "الدجاجة" تجد نفسها، مدفوعة لا مختارة، تؤدي وظيفة "الديك". تصيح حين يُفترض بها الصمت، تقود حين يغيب القائد، تنفق حين يجفّ المعيل، وتقرر حين يتقاعس القرار.

في كثير من البيوت اليوم، ليست "صَيحة الدجاجة" دليلاً على شذوذ، بل شهادة على خلل أعمق: غياب الديك، أو ضعف البنية التي طالما أسندت إليه الدور دون مساءلة.

نخطئ حين نعتقد أن الخراب يأتي من تبدل الأصوات. الكارثة ليست في أن تصيح الدجاجة، بل في أن تُترك لتفعل ذلك وحدها، وسط منظومة ترفض الاعتراف بأن الأدوار يمكن أن تتغير، بل يجب أن تتغير أحياناً. خراب الأسرة، إن حصل، لا يأتي من تبدل الوظائف بقدر ما يأتي من رفض الحوار، ومن غياب التفاهم، ومن شعور كل طرف بالخذلان.

فالرجل الذي يشعر أن سلطته "انتُزعت" يعيش في قلق خفي، دفاعي الطبع، يتلمّس في كل تفصيلة خيانة لرجولته المفترضة. والمرأة التي تُحمّل فوق طاقتها ـ رعايةً وإنفاقاً وقراراً ـ تبدأ بالتآكل من الداخل، ولو بقيت صامدة من الخارج. كلاهما يعيشان في بيت واحد، لكن نفسياً في عزلتين متباعدتين.

هذا التوتر لا تُعالج أسبابه بالشعارات ولا بالعودة القسرية إلى "الأصل"، لأن الأصل ذاته لم يكن يوماً ساكناً. كل حضارة، وكل جيل، أعاد تعريف العلاقات بحسب حاجاته وقدراته. الجمود هو الموت. والموت هو الخراب الحقيقي.

كثيراً ما يُستدعى النص الديني ليحسم هذا الجدل. وتحديداً، تُستحضر الآية: "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا"، فتُوظّف كحُجة لإعادة توزيع السلطة في البيت لصالح الرجل، دون مراجعة للسياق الزمني أو الشرط الاجتماعي. لكن ما تغفله هذه القراءة هو أن القوامة في جوهرها ليست امتيازاً، بل مسؤولية مشروطة: "بما أنفقوا"، أي أن القوامة تتأسس على الفعل لا على الجنس، على الكفاءة لا على النوع، وعلى العدالة لا على الغلبة.

فإن انتفى الإنفاق، أو زالت الحماية، أو تهاوت المسؤولية، تسقط القوامة منطقاً وإن بقيت لفظاً. لا يمكن لرجل أن يتشبث بالقوامة إذا لم يكن قادراً على الوفاء بشروطها. ولا يمكن لامرأة أن تُجرّم لأنها تحمّلت ما لم يعد أحد سواها قادراً عليه.

الصوت، أيّاً كان مصدره، ليس المشكلة. العطب ليس في أن تصيح الدجاجة، بل في أن يلفّ الصمت البيت. أن يصمت الرجل حين يجب أن يتحرك. أن تصمت المرأة حين يثقلها الحمل. أن يصمت الجميع حين يضطرب الميزان.

البيت لا يُبنى على أصوات الطيور، بل على تعقّل الإنسان. على رحمته، وحكمته، وقدرته على المراجعة والاعتراف والتنازل أحياناً. في زمن تتبدل فيه الأدوار الاجتماعية بشكل مضطرد، لم يعد من العقل أن نقيس الحياة بمقاييس الأمثال القديمة، التي صيغت في أزمنة أخرى. بل صار من الواجب أن نُعيد مساءلة المقولات، ونعريها من ثقلها الرمزي، كي لا تستمر في خداعنا.

"البيت الذي تمارس فيه الدجاجة عمل الديك، يحلّ فيه الخراب"، تقول العبارة. لكن ماذا لو كانت الدجاجة هي وحدها القادرة على الإنقاذ؟ أليس الخراب في أن نُجبرها على الصمت حين تحتاج الأسرة إلى صوت؟ أو أن نتركها تصيح، ونكتفي بالمراقبة؟ أليس الأجدر أن نقول: "البيت الذي يُترك فيه العبء على طرف واحد، يحلّ فيه الخراب"؟

حين نتأمل هذه المسألة من زاوية نفسية، نكتشف أن الخلل لا يكمن فقط في تغيير الأدوار، بل في الطريقة التي نتعامل بها مع هذا التغيير. إذ لا أحد يبقى هو ذاته طوال الوقت. الأدوار داخل الأسرة ـ القيادة، الرعاية، الإنفاق، الحماية ـ يجب أن تكون مرنة، قابلة للتداول وفق الظرف، لا محصورة في قوالب جامدة. هذا ما يُسمى بالذكاء الأسري، أي أن تمتلك الأسرة القدرة على التكيف، والتفاوض، والتوزيع العادل للأعباء.

فإذا ما كان الرجل يعاني ظرفاً مادياً قاسياً، فلا بأس أن تسانده المرأة اقتصادياً. وإذا كانت المرأة في ظرف صحي أو نفسي صعب، فعلى الرجل أن يستلم القيادة مؤقتاً. ليس في هذا تبديد للرجولة ولا انتقاص من الأنوثة، بل هو تعاون إنساني يستند إلى الحب، وإلى وعي عميق بمسؤولية البناء المشترك.

تاريخياً، لا يزال المجتمع ينظر إلى صوت المرأة بوصفه خروجاً عن المألوف، أو تعدياً على النطاق الطبيعي. هذا التوجس من صوت المرأة ـ صوتها حين تطالب، أو تصيح، أو تقود ـ ليس وليد اللحظة، بل هو ميراث ثقيل من ثقافة رأت في الرجل محور الحركة، وفي المرأة تابعه الصامت.

لذلك، حين تقوم امرأة اليوم بمسؤوليات أسرية معقدة، لا تجد من يعترف بفضلها إلا نادراً، بل كثيراً ما تُواجه بتساؤلات مشككة، أو بنظرات مستهجنة. يُنظر إليها كما لو أنها اختطفت مكاناً ليس لها، لا لأنها لا تستحقه، بل لأنها وُلدت في جسد أنثى.

لكن الحياة، على قسوتها، لا تعبأ كثيراً بالأدوار التقليدية. هي تفرض على كل فرد أن يواجه قدره بما يملك. والدجاجة التي تصيح، ربما لم تكن تملك خياراً آخر. وربما كان صياحها، لا صمتها، هو ما أنقذ العش من الانهيار.

في نهاية المطاف، لا ينبغي أن تقاس الأسرة بصياح الديك أو صمت الدجاجة، بل بعدالة التوزيع، وتوازن العلاقة، وصدق المشاركة. البيت السليم ليس ذاك الذي يعلو فيه صوت الذكر، بل ذاك الذي يتكافأ فيه الحمل، ويتوزع فيه الجهد، ويُصغى فيه للكل. البيت الذي لا يخاف من تبدل الأدوار، بل يعرف أن الصلابة الحقيقية لا تأتي من الثبات، بل من المرونة.

لعل العبارة الشعبية، بكل رمزيتها المثقلة، قد أدت وظيفتها في زمن ما. لكنها اليوم تحتاج إلى مراجعة شجاعة. فليس كل صياح دليلاً على قوة، ولا كل صمت علامة على ضعف. أحياناً، تصيح الدجاجة لأنها ترى النار تقترب من العش، في حين يغط الديك في نوم عميق.

فلنعد النظر في مفرداتنا، في أمثالنا، في مجازاتنا، وفي الأدوار التي نرسمها للناس بناء على جنسهم لا قدراتهم. لعلنا، بهذا التمرين على المراجعة، ننجو من الخراب الذي نخافه، لا بصمت موروث، بل بصوت جديد… صوت لا يهم من صاحبه، بقدر ما يهم ما يقوله، ولماذا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.