في سباق النفوذ العالمي، لا تُقاس القوة العظمى بحجم اقتصادها أو ترسانتها العسكرية فقط، بل بمدى قدرتها على تشكيل الوعي وتحريك الشارع. وبينما ينظر العالم إلى الإعلام الغربي كقوة لا تُضاهى في التأثير، يُطرح تساؤل حقيقي حول فعالية الإعلام العربي، الذي يبدو في كثير من الأحيان غير قادر على إحداث صدى ملموس في مجتمعاته. إن الفارق بين القوتين لا يقتصر على الميزانيات الضخمة أو التقنيات المتطورة، بل يكمن في جوهر العلاقة بين الإعلام والسلطة، وفي الثقة التي بناها كل طرف مع جمهوره.
يُعزى ضعف تأثير الإعلام العربي إلى قيود هيكلية عميقة. فجزء كبير منه يعمل تحت مظلة الحكومات أو يتبع أجندات رجال أعمال مقربين من السلطة، مما يقيد قدرته على إجراء تحقيقات استقصائية حقيقية أو انتقاد السياسات الرسمية. هذا النقص في المصداقية والجرأة يضعف علاقته مع الجمهور، ويحوله إلى أداة للتوجيه بدلًا من كونه مصدرًا للمعلومات المستقلة. كما أن الاستقطاب الحاد على أسس سياسية وطائفية يُشتت تأثيره، ويجعل منه أداة لتعميق الانقسامات بدلًا من توحيد الرأي العام. وفي المقابل، يستمد الإعلام الغربي قوته من حريته الصحافية، التي تضمن له الحماية الدستورية والقانونية ليكون "السلطة الرابعة" التي تراقب وتحاسب. هذا الاستقلال يجعله قادرًا على كشف الفساد والتجاوزات، وبناء مصداقية لا تتزعزع مع جمهوره.
إن تأثير هذا الإعلام ليس مجرد نظرية، بل حقيقة أثبتتها أحداث تاريخية غيرت مجرى السياسة والمجتمع. ففي الولايات المتحدة الأميركية، لم تكن فضيحة "ووترغيت" لتنتهي باستقالة الرئيس نيكسون لولا التغطية الاستقصائية الجريئة لصحيفة "واشنطن بوست"، التي كشفت عن شبكة من التستر السياسي. كما أن نشر وسائل الإعلام صورًا حية ومباشرة من حرب فيتنام أحدث تحولًا جذريًا في الرأي العام الأميركي، مما أجبر الحكومة على سحب قواتها. ولم يتوقف الأمر عند السياسة، فمع انطلاق حركة "مي تو"، قامت صحف مثل "نيويورك تايمز" ومجلة "ذا نيويوركر" بنشر شهادات الضحايا، مما حولها من قضية محلية إلى ظاهرة عالمية غيرت طريقة تعامل المجتمعات مع قضايا التحرش الجنسي. هذه الأمثلة تبرهن أن الإعلام المستقل ليس مجرد وسيلة إخبارية، بل هو قوة قادرة على تحريك الشارع وتغيير القوانين.
لكن هذه الفجوة تتجلى اليوم في أبشع صورها فيما يحدث في غزة. فمع كل صورة لجرح، أو صوت لطفل يبكي، أو مشهد لدمار، نرى كيف أن الإعلام الغربي الذي نجح في تحريك الرأي العام في فيتنام، يبدو عاجزًا عن تغيير المسار الدبلوماسي أو التأثير في مواقف الحكومات الكبرى. وفي المقابل، تظهر قوة الإعلام البديل ومواقع التواصل الاجتماعي التي تنقل الحقائق المباشرة من قلب الحدث، وكأنها تصرخ في وجه العالم "نحن هنا، لماذا لا تسمعوننا؟". هذا التناقض يطرح سؤالًا جوهريًا حول ما إذا كان التأثير الإعلامي يتوقف عند أبواب السياسة والمصالح الاستراتيجية.
يمكن القول إن الفارق بين الإعلام العربي والغربي لا يكمن في القدرات التقنية، بل في جوهر الدور الذي يلعبه كل منهما. فبينما يُنظر إلى الإعلام الغربي كقوة رقابية مستقلة، يُنظر إلى الإعلام العربي في كثير من الأحيان كأداة إعلامية للنظام السياسي. ومع تزايد تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، التي قدمت منصة بديلة للحوار، يواجه الإعلام العربي تحديًا أكبر لإعادة بناء الثقة مع جمهوره واستعادة دوره كقوة حقيقية ومؤثرة، لا مجرد ناقل للأخبار.