: آخر تحديث
هاشتاك الناس

ديمقراطية كيس الطحين

3
3
3

في العراق، كل شيء يشبه معضلة البيضة والدجاجة؛ لا أحد يعرف من سبق الآخر، ولا أحد يعترف بخطأ البداية. الأحزاب العراقية نسخة محلية من هذا اللغز: لا تدري هل خرجت من رحم الوطن، أم من حضانة طائفية بدعم خارجي؟ والمواطن، وسط هذا اللغز، لا ينال لا بيضة ولا دجاجة، فقط يتفرج على المائدة من بعيد.

منذ 2003، والعراق يتحرك فوق صفيح ساخن، كل حزب يرفع شعار "الوطنية" على مقاس جيبه الخاص، أمام الكاميرات تصافح وتبوّس لحى، وتحت الطاولة سكاكين ومناشير. المشهد السياسي أشبه بلعبة "بلياردو مشروخ"، كل ضربة ترتد على صاحبها، وكل لاعب يخرج بمزيد من الخدوش.

الخيوط الخارجية تحرك اللعبة: إيران تمتد من الشرق، تركيا من الشمال، أميركا تلوّح من البعيد، والأمم المتحدة تشاهد المشهد بعين العاجز. الوطن تحوّل إلى "قطعة كيك" في حفلة زفاف بلا عريس؛ الجميع يأخذ حصته… إلا صاحب العرس. الأحزاب لا تبني أوطانًا، بل تبني خنادق. بدلًا من توحيد الناس، رسخت الطائفية حتى صار كل مواطن مشروع عدو لجاره.

الإعلام الحزبي ليس وسيلة توعية، بل مصانع للتحريض. النشرة الإخبارية تحولت إلى نشرات كراهية، المقالات إلى منشورات تعبئة، والبرامج الحوارية إلى معارك كلامية. الكل يتحدث عن الديمقراطية، بينما يمارس دكتاتورية الحزب الواحد والقائد الأبدي. كم رئيس حزب تنازل عن منصبه؟ الجواب واضح: "لا يتنازل إلا بالموت… أو الانقلاب الداخلي".

أما الانتخابات، فهي "النكتة الكبرى". في دول العالم، الانتخابات وسيلة تداول سلطة، أما عندنا فهي وسيلة لتدوير نفس الوجوه. صندوق الاقتراع مجرد زينة، يملؤه التزوير، ثم يتنافسون: من سرق أكثر؟ من اشترى الأصوات بسعر أغلى؟ وبالرغم من ذلك، يخرجون علينا بعبارات مثل "الفضاء الوطني"، بينما كل واحد يسكن كوكبًا طائفيًا معزولًا.

الأحزاب الشيعية تصرخ بالمظلومية ليل نهار، وكأنها محامية الدفاع عن الطائفة، بينما الحقيقة أنهم أول من ظلمها وسرق خيراتها. يتصارعون كقطيع على عظمة، وكل واحد يدّعي أنه المخلّص المنتظر. يتحدثون عن خدمة الناس وهم منشغلون بخدمة حساباتهم البنكية. المواطن المسكين ينتظر الكهرباء والماء… فيصله الدخان والخراب.

أما الأحزاب السنية، فحالها ليس أفضل. انقسامات لا تنتهي، ولاءات تتبدل أسرع من الطقس. يتشاجرون على فتات السلطة، ويتقاسمون خرابًا لا يسد رمق جائع. سياسيّوهم بارعون في عقد الصفقات على جماجم المهجرين والمقتولين، يبتسمون في المؤتمرات، يغسلون أيديهم من الدماء أمام الكاميرات. المواطن هناك لا يعرف من عدوه: داعش، المليشيات، السياسيون… أم كلهم معًا في حفلة واحدة؟

وسط هذه الفوضى، أميركا تمارس لعبتها القديمة: شد الحبل. تدعم الأحزاب تارة، تبتزها تارة، تلوّح بالعقوبات على إيران ثم ترسل رسائل طمأنة. تخلق داعش، ثم تحاربها، تبارك الحشد، ثم تنتقده. لعبة براغماتية قذرة، لا تريد عراقًا قويًا، بل عراقًا هشًا تابعًا.

اقترب موسم الانتخابات… وفجأة ستعود الوجوه ذاتها إلى "الجذور": هذا لبس العقال نفاقًا، ذاك تذكر دشداشته، والآخر اكتشف عشيرته. بدأت قوافل "المساعدات الانتخابية" تجوب الأحياء: كيس طحين، قليل من السكر، بطانية صينية… كلها محاولات شراء أصوات بأرخص الأثمان. المواطن يأخذها ضاحكًا… يعرف أن صوته انتهى مع أول صورة أمام الكاميرا.

عيبٌ عليكم، أيها السياسيون، أن تجعلوا من الفساد موسمًا انتخابيًّا، ومن صوت المواطن صفقة تُعقد بثلاجة، وكيس طحين، وحفنة دولارات. لقد اختزلتم الوطن في سلّة غذائية، وابتذلتم كرامة الناس بثمنٍ لا يكفي حتى لسدّ جوعٍ عابر.

سُرق الحلم الكبير بوطنٍ عادل، وتحول إلى أمنيات صغيرة: وظيفة مؤقتة، معونة هزيلة، كهرباء لساعات، وكيس طحين يُلقى كصدقة لا كحق. كأنّ الكرامة الوطنية باتت تُقاس بالكيلوغرام!

وفي النهاية، يحتفل الحزب، وتُهدَر كرامة الشعب، ويظلّ الوطن ينتظر خلاصه في صندوقٍ مثقوب. الفائز معروف… والخاسر دائمًا: الوطن والمواطن.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.