مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2025، تتراكم بوادر مبكرة تؤشر إلى أن السيناريو المقبل قد يكون استنساخًا لمعاني الفشل الديمقراطي: تحويل الاقتراع إلى آلة لإعادة إنتاج نفس النخب ونفس أشكال الهيمنة. ثلاثية "المال - السلاح - المنصب" تعمل اليوم بتكامل لتفريغ الانتخابات من معناها التمثيلي وتحويلها إلى ساحة لصراع شبكات النفوذ والمحاصصة. ومن الآن تستهدف الميليشيات بقوة مناطق واسعة من المحافظات الغربية والسنية والكوردية: صلاح الدين، الأنبار، نينوى، إضافة إلى كركوك، سنجار، سهل نينوى، خانقين ومندلي، التي تشملها معظم المادة 140 من الدستور العراقي وتسمى (المناطق المتنازع عليها) بين العراق وإقليم كوردستان، والذي يعتبرها مناطق كوردستانية خارج إدارته. وبحسب تقارير ميدانية وتحليلات أمنية، باتت محط سيطرة أو نفوذ عسكري وأمني واقتصادي لفصائل وميليشيات مسلحة ومعرّفة بالإرهابية من قبل الولايات المتحدة، حيث تسعى لضمان أن يكون غالبية ممثليها في مجلس النواب من المؤيدين لها ولأحزابها المذهبية، في واحدة من أخطر عمليات التغيير الديموغرافي التي تُجرى منذ إسقاط نظام صدام حسين. وبذلك فإن المنافسة هنا ليست سياسية فحسب؛ بل هي معركة على الأرض والهوية والموارد.
المال السياسي يستمر في إذكاء السوق الانتخابي: شراء أصوات، صفقات قبلية، وحوافز مادية تُنسي الناخبين برامج المرشحين وكفاءتهم، وتحوّل الاختيار إلى صفقة تُقاس بكمِّ المال المعروض. وفي ظل ذلك، يُفقد الصندوق قدرته على التعبير عن قناعةٍ حقيقية، ويصبح ميدانًا لمزايدات يمكن أن تشتري الولاءات. أما السلاح فبقي خارج إطار المساءلة: انتهاك احتكار الدولة للعنف يجعل الانتخابات عرضةً للترهيب والإقصاء، ويحول يوم الاقتراع إلى اختبارٍ للأمن الشخصي أكثر منه ممارسةً سياسية حرة. فالتنافس المسلّح على مناطق استراتيجية (كالسهول والحدود والطرق التجارية) يعزز قدرة قوى غير مؤسساتية على فرض تمثيلها.
وبعد المال والسلاح تأتي المناصب، حيث إن بنية الدولة ليست محايدة: استغلال مواقع القرار والإدارات لأغراض سياسية يقوّي من قدرة الكتل الحاكمة على ضبط نتائج الانتخابات عبر التعيينات والضغوط الإدارية، ويضعف مبدأ تكافؤ الفرص. بالتالي، تتحول الدولة من حكمٍ محايد إلى طرفٍ فاعل في الصراع الانتخابي.
الأزمة الأكبر هي أزمة الشرعية الشعبية: في دورات سابقة سجّلت بعض المحطات نسب مشاركة متدنية (بل وصلت في بعض التقديرات إلى حدود الـ 25 بالمئة فقط من الناخبين)، بينما تدّعي الجهات الرسمية نسبًا أعلى، في فارق ينعكس على مصداقية البرلمان وما يشرّعه من قوانين. ومع غياب المشاركة الشعبية يُفقد المجلس الجديد صفة التمثيل الاجتماعي، ويقوّي معارضة الشارع لنتائجه.
الخطر الأكبر: تحول البرلمان إلى ما يشبه "مجلس قيادة الثورة" بغطاءٍ طائفي، حيث تمنح الأغلبية الميليشياوية القدرة على تمرير القوانين واستعادة أدوات حكم شمولي بلونٍ جديد. فيما كانت الشعارات سابقًا أيديولوجية قومية عنصرية، باتت اليوم تُلبس طابعًا طائفيًا يُشرعن تدوير النظام السابق بصيغ مختلفة.
خاتمة وتحذير: الانتخابات ليست مجرد إجراء فني، بل اختبار لقاعدة الإجماع الوطني. ودون إجراءات فورية لحصر السلاح بيد الدولة، وقطع تدفق المال السياسي، وفصل المنصب عن النفوذ الانتخابي، سنشهد دورة انتخابية تُرسّخ انهيار الشرعية وتبشّر بعودةٍ إلى ما قبل "المربع صفر"، لكن هذه المرة بوجوه جديدة وخطر أعظم.