حديث الرئيس أحمد الشرع أمام شاشة قناة الإخبارية السورية عن الإعلام، لم يكن الحوار سياسياً تقليدياً بقدر ما كان مرآة لمرحلة تطل برأسها على المجتمع، مرحلة تتساءل عن جدوى الإعلام إذا ظل أسير قوالب جاهزة أو مجرد صدى لخطاب السلطة.
جاءت كلماته حادة وواضحة تخترق رتابة اللغة المعتادة، الحرية الواسعة هي الحالة الصحية، النقد حتى وإن كان جارحاً هو دليل عافية، والرئيس ليس وحده من يقرر كل شيء. بدا وكأن الشرع يضع الإعلام أمام امتحان وجودي، هل يملك الشجاعة للتحول من بوق يلمّع صورة السلطة إلى صوت يتنفس بوجع الناس وأحلامهم؟
على مدى سنوات طويلة بدا الإعلام الرسمي في سوريا كأنه مبنى صلد من الإسمنت، جدرانه ملساء لامعة لكن نوافذه مغلقة بإحكام، واجهاته تعكس الضوء لكنها تمنع الهواء من الدخول، الناس يمرون بجانبه كل يوم يلمحونه دون أن يجدوا فيه بيتاً يسكنونه.
إنَّ الإعلام كان لسان السلطة لا لسان الناس، وفي المرحلة القادمة لن يكون لإعلام يكرر الخطاب نفسه أي قيمة، بل المطلوب أن يوضع المواطن في المركز وأن تفتح النوافذ كي يدخل صوت الشارع لا أن تبقى الجدران مغلقة على ذاتها. وهذه الصورة ليست مجازاً بل امتداد لذاكرة الناس، فالصحفيون أنفسهم عاشوا التجربة، يكتبون مقالات بصدق ثم يرونها تُقص أو تُفرغ من مضمونها خشية إزعاج مسؤول، ومع الوقت يترسّخ الإحباط ويخفت الحافز وتتحول الحرية إلى شعار أجوف، في حين أنها ليست مجرد كلمة ترفع على الورق بل ممارسة يومية تشبه التنفس، إن غابت اختنق الجسد كله. في العمق ليست المسألة مشكلة لغوية أو تقنية بل أزمة ثقة.
المواطن السوري لم يعد ينتظر إعلامه لينقل له الحقيقة، بل لجأ إلى مواقع التواصل أو القنوات الأجنبية، وليست المشكلة في كثرة البدائل بل في غياب الثقة، الناس شعروا أنَّ إعلامهم لا يتحدث بلسانهم ولا يعكس وجوههم. ولتستعاد هذه الثقة لا تكفي القوانين الصارمة ولا النصوص الجامدة، الحرية لا تمنح على الورق فقط بل تمارس في الميدان، في حلقات حوارية مفتوحة وتحقيقات ميدانية وجرأة في طرح قضايا الخدمات والفساد، الحرية تبدأ حين ينصت الإعلام إلى أصوات القرى النائية لا حين يكتفي بتكرار تصريحات المسؤولين. وهنا يتقاطع الإعلام مع المعمار، فالمؤسسات الإعلامية ليست مجرد مبانٍ مجهزة أو استديوهات مضاءة بل هي عقلية تسكنها، كما أن مبنى بلا سكان يتحول إلى أطلال، كذلك الإعلام بلا جمهور يصبح جداراً صامتاً، ومسؤول إعلامي سابق أقر بأن الإعلام الرسمي تأخر كثيراً لكنه أكد أن الأوان لم يفت، الأفضل أن نستيقظ متأخرين من أن نظل نياماً، فالمنافسة اليوم شرسة والجمهور لم يعد رهينة صحيفة واحدة أو قناة واحدة، وإذا لم يتغير الإعلام فسوف يُمحى ببساطة من ذاكرة الناس كما تُمحى الأبنية المهجورة من خرائط المدن.
إنَّ حرية التعبير بلا مهنية لا قيمة لها، وهناك الكثير من الناس كانوا يشترون الصحيفة كل يوم ثم هجرها لأنها لم تعد تحكي عن مشكلاتهم، معاشاتهم، مستشفياتهم، أبنائهم العاطلين عن العمل. الإعلام الذي لا يعكس وجه الناس في المرآة يصبح مرآة مهشمة لا تصلح لشيء. الإعلام لا يكفي أن يُمنح هامش حرية بل يجب أن يتحول إلى منصة حقيقية للناس، عليه أن يتحرر من التبعية والخطاب التمجيدي وأن يُدار بغرف تحرير مستقلة محمية بالقانون، فالحرية هنا ليست ترفاً بل شرط للبقاء، والصحافة يجب أن تكون صحافة حلول لا مجرد تشخيص للمشكلات، عليها أن تقدم البدائل وأن تدرب كوادرها على التحقيقات الاستقصائية وأن تتحقق من كل معلومة وأن تتفاعل مع الجمهور عبر المنصات الرقمية بصدق وشفافية.
ولماذا لم يكن الإعلام الرسمي متابعاً في زمن الاستبداد؟ والإجابة تشير إلى أنه كان منصة لتلميع السلطة لا لكشف أخطائها، وبهذا المعنى كان الإعلام جزءاً من أزمة أعمق كرست الفجوة بين الشعب والسلطة.
إنَّ الشرط الأول لبناء إعلام ناجح هو أن يكون هدفه واضحاً، أن يكون منصة للشعب تناقش أداء الحكومة بشفافية وتعرض التحديات وتبحث عن حلول، وأن تجسد أن السلطة خادم للشعب لا سيداً عليه، لكن النوايا وحدها لا تكفي بل تحتاج إلى آليات. كيف تبنى الثقة إذن؟
على الإعلام الرسمي أن يتحول إلى أداة رقابية مستقلة عن السلطة التنفيذية تحمي مصالح الناس أولاً، أن تدار البرامج بفريق محترف يمنع الانزلاق نحو التبعية أو النفعية، أن ترسم خطة واضحة لبناء قيم مشتركة ووعي جمعي، وأن تؤهل كوادر مؤمنة برسالتها الوطنية بعيدة عن الفساد والولاءات الضيقة، وبهذا وحده يمكن للإعلام أن يستعيد دوره كبنية اجتماعية تشبه الجسور تربط بين الضفتين: الدولة والمجتمع.
من بين كل هذه الرؤى يمكن رسم ملامح طريق واضح، تحرير العقلية من التبعية، المصداقية في نقل الخبر بلا تزويق، إتاحة الرأي الآخر ولو ضمن حدود، الاقتراب من الناس بتحقيقات ميدانية، تدريب الكوادر على الصحافة الحديثة، وإعادة هيكلة المؤسسات لضمان استقلاليتها المالية والإدارية.
إنَّ تصريحات الرئيس الشرع لم تكن مجرد كلام يسجل في نشرات الأخبار بل كانت دعوة لإعادة بناء الجسور بين الإعلام والمجتمع، دعوة أشبه بعملية ترميم تاريخي، جدار قديم يتصدع، نافذة تفتح، والهواء يدخل من جديد.
المطلوب اليوم ليس إعلاماً يلمع صورة السلطة بل إعلاماً يرى في عيون الناس مرآته، ليس إعلاماً يعيد إنتاج الخطاب ذاته بل إعلاماً يصنع سردية جديدة تتسع للجميع وتعيد الاعتبار إلى الإنسان البسيط في القرية والمدينة في السوق والمدرسة في المشفى والمصنع، إعلام يقترب من تفاصيل اليومي ليعيد تشكيل صورة الوطن. يبقى السؤال مفتوحاً، هل ينجح الإعلام الرسمي في هذا التحول؟ هل يعيد الثقة المفقودة؟ الجواب لن يأتي من التصريحات وحدها بل من الممارسة اليومية، من شجاعة الصحفيين، من صدقهم في أن يكونوا لسان الناس لا صدى السلطة، فإن تحقق ذلك سيكون الإعلام بيتاً يسكنه الناس جميعاً لا جداراً يلمع من الخارج ويعتم من الداخل، وسيصبح التاريخ حينها شاهداً على أن جداراً قديماً تهدم ليبنى مكانه بيت من زجاج يطل على الناس ويطلون منه على أنفسهم.