لم تعد حياة المقدسيين تسير وفق إيقاعها المعتاد، فالحواجز الأمنية التي انتشرت بكثافة بعد حادثة إطلاق النار الأخيرة حولت شوارع المدينة إلى مسرح للانتظار والإحباط. بين إغلاق المدارس وتحول التعليم إلى دراسة عن بُعد، وبين عزلة نفسية تتفاقم تحت ظل الاحتلال، يعيش الفلسطينيون واقعًا يختزل المأساة الإنسانية اليومية في معادلة قاسية: أمن الاحتلال مقابل حرية السكان الأصليين.
في شوارع القدس الشرقية، لم يعد المشهد اليومي يقتصر على زحام المارة أو أصوات الباعة في الأسواق القديمة، بل باتت نقاط التفتيش العسكرية هي العلامة الأبرز التي ترسم ملامح الحياة هناك. ازدادت الحواجز فجأة بعد حادثة إطلاق النار الأخيرة، حتى إن بعض السكان اضطروا إلى النوم في سياراتهم أو على جوانب الطرق بعدما تقطعت بهم السبل أمام بوابات مغلقة. هذا الثقل الأمني لم يترك مساحة للحرية أو التنقل الطبيعي، فالمواطن الذي كان يتوجه صباحًا إلى عمله أو مدرسته أصبح أسيرًا لانتظار طويل قد يلتهم ساعات من يومه، وأحيانًا قد يحرمه من الوصول إلى وجهته تمامًا.
هذا التضييق الأمني لا يطال الحريّة الشخصية فحسب، بل يمتدّ ليخنق الحياة الاجتماعية. لقد أغلقت المدارس أبوابها، وتحولت الفصول الدراسية المفعمة بالحياة إلى شاشات باهتة في التعليم عن بُعد، ليخسر الأطفال فرصتهم في اللعب والتعلم المباشر. إنه حصار يفرض نفسه على مستقبل جيل كامل، يرى في كل يوم جديد تجسيدًا لواقع مرير لا يمنحه أبسط حقوقه، وهو الحق في التعليم والأمان.
إنّ ما يحدث في القدس الشرقية هو جزء من سياسة ممنهجة يتبعها الاحتلال، حيث يُستخدم الأمن كذريعة لقمع الفلسطينيين وفرض المزيد من السيطرة عليهم. فكل عملية فردية يقوم بها شاب فلسطيني، تُقابل بعقاب جماعي شامل يطال الأبرياء والمدنيين، ويُعكّر صفو حياتهم. إن هذا المبدأ لا يتوافق مع أي قوانين دولية أو إنسانية، بل هو تجسيد واضح لعقلية الاحتلال التي ترى في كل فلسطيني خطرًا محتملاً.
فالاحتلال لا يكتفي فقط بتعطيل الحياة اليومية، بل يهدف أيضًا إلى زرع الخوف والإحباط في النفوس، والفلسطينيون في القدس الشرقية لا يخشون فقط على أمنهم الشخصي، بل يخشون على هويتهم، وعلى مستقبل مدينتهم. إنهم يدركون أن هذه الإجراءات القاسية ليست مجرد رد فعل عابر، بل هي جزء من مشروع أكبر لتهجيرهم، ودفعهم للاستسلام، والتخلي عن حقوقهم. الخوف من فقدان المنزل، أو من الاعتقال، أو من عدم القدرة على الوصول إلى المستشفى في حالة الطوارئ، هو خوف حقيقي وملموس يعيشونه كل لحظة.
المفارقة الصارخة تكمن في معادلة الأمن مقابل الحقوق المدنية، فالاحتلال يرفع شعار حماية مواطنيه، لكنه في الوقت ذاته يسحق حياة السكان الأصليين تحت ذريعة الأمن. هذا التناقض يطرح سؤالًا جوهريًا: أي أمن يمكن أن يتحقق حين يُبنى على مصادرة الحرية وتجريد الناس من كرامتهم؟ التجربة التاريخية تثبت أن القمع لا يجلب الطمأنينة، بل يولّد المزيد من الاحتقان والمقاومة، ويعمّق الفجوة بين الاحتلال وسكان المدينة.
في هذه اللحظة الحرجة، يعيش الفلسطينيون حالة من القلق المركّب. فهم يخشون من أن يتوسع العدوان على غزة ليشمل جبهات أخرى، ويخشون أيضًا من أن تتحول حياتهم اليومية في القدس إلى سجن مفتوح بلا جدران. الخوف لا ينبع فقط من حضور الجنود أو من أصوات القصف البعيدة، بل من ضبابية المستقبل، ومن إدراكهم أن الاحتلال لا يقدم حلولًا، بل يفرض وقائع قسرية تزيد من تعقيد المشهد.
إن استمرار هذا النهج يضع المنطقة أمام معادلة خطيرة: كلما صعّد الاحتلال من قبضته الأمنية، كلما تآكلت فرص التعايش والسلام، وكلما زادت احتمالات الانفجار القادم، فالفلسطيني اليوم لا يبحث عن أكثر من حقه البسيط في حياة طبيعية، دون تفتيش مهين أو حصار خانق أو خوف من مصير مجهول. لكن الاحتلال، بدلًا من أن يلتقط هذه الحقيقة الإنسانية، يصر على إدارة المدينة بعقلية السيطرة العسكرية، وكأنها ثكنة لا مدينة.
القدس اليوم ليست مجرد عنوان للصراع، بل مرآة لسياسات الاحتلال التي تفشل مرة تلو الأخرى في إنتاج استقرار حقيقي. فما يحدث في غزة ينعكس مباشرة على شوارعها وأحيائها، وما يتعرض له الفلسطينيون هناك يتكرر هنا بصورة أخرى. وفي الحالتين، تبقى النتيجة واحدة: مجتمع يعيش بين الخوف والحرمان، ومحتل يعتقد أن الأمن يُبنى بالهدم والقمع، بينما الحقيقة أن الأمن لا يستقر إلا حين تُرفع يد الاحتلال عن حياة الناس.
الحل ليس في المزيد من نقاط التفتيش، ولا في إغلاق المدارس، ولا في اعتقال الأبرياء. الحل يكمن في إنهاء الاحتلال، وفي إعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه الكاملة، وفي إيقاف المجزرة التي تجري في غزة. إنّ الهدوء الذي يأمله سكان القدس الشرقية لن يأتي إلا عندما يعود الهدوء إلى كل فلسطين. إنهم يدركون أن مصيرهم ومصير غزة واحد، وأن السلام الحقيقي لا يمكن أن يتحقق في ظل الاحتلال والظلم. فهل من يسمع؟ وهل من يدرك أن العدالة هي السبيل الوحيد نحو السلام؟