إذا كان دن - كما ذكرَ للصحافةِ البريطانية - ذهب إلى مصر للمرة الأولى كجندي في سلاح الجو البريطاني ولم يخدم سوى عامين، أي حتى عام ١٩٢٢م، فهل كانت مهمته في مصر استخباراتية؟ نقّبت في أرشيف دن علّني أجد صلة تربطه بالاستخبارات أو بالإخوان المسلمين، لكن الأمر كان كالبحث عن همسة في صخب العتمة.
في المجلد الخامس من عدد «مجلة معهد الشرق الأوسط» في «واشنطن دي سي» ليوم الأول من يناير لعام ١٩٥١م كتب إزموند رايت ملخصًا تعريفيًا عن كتاب جيمس هيوارث دن «الاتجاهات». يقول التعليق: «جيمس هيوارث دن، محاضر العربية - سابقًا - في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن وأستاذ «بروفيسور» الحضارات العربية والشرق أوسطية في معهد الخدمة الخارجية في جامعة جورجتاون في واشنطن، يُعرف أنه مرجع في شؤون مصر، وتحديدًا في نظامها التعليمي وأدبها المعاصر. في هذه المقالة [يشير إلى كتاب الاتجاهات] يبدأ واحد من سلسة من الدراسات المتخصصة عن مواضيع شرق أوسطية مختلفة. عنوان الكتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة»، هو عنوان غير دقيق. بشكل أساسي، هذا الكتاب هو دراسة للإخوان المسلمين، وقائدها حسن البنا، الذي اغتاله مجهولون. (...). مع أنه يوجد كتابات عن البنا، وقد استخدمها هيوارث دن إلى أقصى حدودها، إلا أنها تقل عن أن تكون موثوقة. كثير من أهمية هذه القصة [قصة الإخوان] لا يمكن أن يقدر قيمتها إلا شخص كهيوارث دن، الذي يعرف مصر، والذي هو جاهز وقادر على جمع مادة الكتاب بالملاحظة والبحث الميداني».
هذه الشهادة لإزموند رايت تشير إلى أن كتاب هيوارث دن كان جزءا من سلسة كتابات له عن دول ومناطق مختلفة من الشرق الأوسط، وأنه قرر كتابتها بعد انتقاله إلى معهد الخدمة الخارجية في جامعة جورجتاون في واشنطن دي سي. في هذه السلسة، كتب دن عدة دراسات، منها «التطورات السياسية والدستورية في سوريا ١٩١٨م-١٩٥١م» نشر عام ١٩٥١م، و«ميلاد باكستان: دولة مسلمة جديدة» نشر عام ١٩٥٢م، ، و«اليمن: استطلاع اجتماعي وسياسي واقتصادي عام» نشر عام ١٩٥٢م، والكتابين «الحالة السياسية في إيران ١٩٤١م-١٩٥١م» و«التطورات الدستورية والسياسية للعراق ١٩١٤م-١٩٥١م» اللذان نشرا في ١٩٥١م-١٩٥٢م. إزموند أشار أن دن استخدم الكتابات التي كتبها من سبقه (يمكن استقاء كثير من هذه الأعمال بالاطلاع على البيبليوغرافيات التي كتبها دن عن مصر وأدبها وتاريخها) عن حسن البنا «إلى أبعد حدودها» مع تأكيد أنه كان له إضافات مهمة تنشر لأول مرة.
دن نفسه تحدث عن كتابه «الاتجاهات» في العدد الثاني من «سلسلة العالم المُسلم» الذي جاء بعنوان: «بيبليوغرافيا مختارة عن مصر الحديثة» وطبع عام ١٩٥٢م في القاهرة. يقول دن عن كتابه «الاتجاهات»: «هذه دراسة حول الصراعات الدينية والسياسية في مصر الحديثة، وأنماط النشاط التخريبي، لا سيما بين الجماعات الدينية-السياسية التي عززت موقعها لتصبح قوة مؤثرة. وقد أجبرت جماعات مماثلة في إيران الحكومة على تأميم صناعة النفط. يتناول هذا الكتاب القضايا الاقتصادية والاجتماعية والزراعية، والصراع بين الفئات الدنيا والطبقات الحاكمة. كما يصف كيف سعى أحد الفصائل الكبرى إلى الاستيلاء على السلطة واستبدال أشكال الحكم الغربية بأساليب إسلامية تقليدية، كما دعا إلى ذلك الكاشاني في إيران».
لم أجد لدن أعمالا كثيرة نشرت في بداية الأربعينيات الميلادية، وبعد بحث، وقعت على كتاب بعنوان: «كلية الدراسات الشرقية والإفريقية: التدريب الإمبراطوري وتوسّع التعلّم» كتبه إيان براون، ونشرته دار جامعة كيمبردج البريطانية للنشر في يوليو ٢٠١٦م. يذكر إيان براون في الفصل الثالث الذي عنوانه «سنوات الحرب ١٩٣٩م-١٩٤٥م» التفاصيل المهمة التالية:
- في منتصف عام ١٩٤١م، كانت الكلية تضغط على السلطات للسماح لها بالاحتفاظ بـ«سي. إس. موندي»، كبير المحاضرين في اللغة التركية، الذي كان في ذلك الوقت «العضو الوحيد المتبقي في هيئة التدريس دون الخامسة والثلاثين من العمر». وقد تم تمويل منصبه من الزيادة في مخصصات المنحة التي منحها مجلس الجامعة للكلية، والتي تم الاتفاق عليها في مارس ١٩٣٩م، وكان قد تم إنشاؤه، كما أوضح المدير لاحقًا، بناءً على طلب من وزارة الحرب ووزارة الطيران. علاوة على ذلك، كان هذا المنصب الوحيد في جامعة بريطانية لتدريس اللغة التركية، وكان موندي هو الوحيد من الجنسية البريطانية الذي يُدرّس التركية على مستوى جامعي في البلاد، وهو اعتبار بالغ الأهمية خلال زمن الحرب. يبدو أن الكلية نجحت في إبقاء موندي في قاعة التدريس، لكن اثنين من مدرّسي اللغات الآخرين، هما «ج. هيوارث دن»، كبير محاضري اللغة العربية، و«ر. ب. سيرجنت»، محاضر في اللهجات العربية الجنوبية، تم استدعاؤهما للخدمة الوطنية. الأول تم إرساله إلى الشرق الأوسط بين عامي ١٩٤٠م و١٩٤٢م، حيث عمل في استخبارات الجيش، بينما عمل الآخر في هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» في لندن كمساعد برامج في البث الموجه إلى الشرق الأدنى.
- كما تم استدعاء اثنين من المؤرخين الشباب بالكلية للخدمة العسكرية. «سيريل فيليبس» (الذي تم تعيينه مساعدًا في تدريس التاريخ الهندي قبل الحرب بفترة قصيرة) التحق بالجيش في مارس ١٩٤١م وترقى إلى رتبة رائد في فيلق التعليم العسكري. وقد تم إرساله في جولة إلى إيطاليا، ثم إلى مصر ولبنان وسوريا وفلسطين في الأشهر الأولى من عام ١٩٤٥م. أما برنارد لويس، الذي تم تعيينه محاضرًا مساعدًا في التاريخ الإسلامي عام ١٩٣٨م، فقد خدم في فيلق استخبارات الجيش بين عامي ١٩٤٠م و١٩٤١م، ثم أُلحق بأحد أقسام وزارة الخارجية، والذي كان في الواقع فرعًا من الاستخبارات العسكرية البريطانية، حيث خدم لبقية الحرب.
- في منتصف نوفمبر ١٩٣٩م – بعد أن أعلنت بريطانيا الحرب على ألمانيا في الثالث من سبتمبر – كتب اللورد هارلك، رئيس الهيئة الإدارية، إلى اللورد شاتفيلد، وزير تنسيق الدفاع، ليبلغه بأنه على الرغم من إبلاغ المدرسة منذ أشهر عديدة بأنها ستستقبل أعدادًا كبيرة من الطلاب من القوات المسلحة، إلا أنه لم يتم إرسال أي طالب على الإطلاق. واختتم رسالته قائلاً: «نحن مستعدون، لكن لم يتم إرسال الطلاب إلينا!»
- في إشارة أخرى تنذر بالسوء، تلقّى عدد من أعضاء الهيئة الأكاديمية، الذين أُبلغت السلطات بأهميتهم الحاسمة في تدريس اللغات المستخدمة في الخدمة العسكرية أثناء الحرب، أوامر الاستدعاء للخدمة. وفي منتصف ديسمبر من عام ١٩٣٩م، كتب اللورد «هارليخ» مجددًا إلى الوزير، ولكن هذه المرة بنبرة تحريضية، قائلاً: «بالطبع، إذا كنتم تعتقدون أننا مقبلون على حرب تقتصر على الجبهة الغربية، وأنه لن ترد أي طلبات من منطقة الشرق الأدنى أو الأوسط، فلا جدوى من الإبقاء على طاقمنا اللغوي المتخصص مجتمعًا».
- يكمل «إيان» التعليق في الحاشية: في أواخر عام ١٩٣٩م، أُبلغ «جيمس هايورث-دَن»، كبير محاضري اللغة العربية، و«ل. ب. إلويل-ساتون»، محاضر اللغة العربية العراقية، بأنهما سيتلقيان قريبًا أوامر بالتوجه إلى التدريب في وحدة تدريب ضباط سلاح الفرسان (Cavalry OCTU). [من خطاب «رالف تيرنر إلى دبليو. إتش. بروكس» مكتب الحرب، ٩ ديسمبر ١٩٣٩م، NA CO 859/5/5]
- فد تكون سمعة الكلية لدى وزارة الخارجية قد تضررت أكثر خلال هذه الفترة عندما تم انتداب أحد أعضاء طاقمها المتخصصين في اللغة اليابانية، «ريتشارد ليدوارد»، للعمل بدوام جزئي في تدريس القوات المسلحة، مما أتاح له أن يرى مباشرة بعض الجوانب الأقل جاذبية للحياة الأكاديمية. وفي مذكرة كتبها لزملائه في وزارة الخارجية في أواخر أكتوبر عام ١٩٤٤م، أشار إلى «المؤامرات الشخصية التي لا تنتهي بين أعضاء الهيئة الأكاديمية في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية»، موضحًا أنها تعود جزئيًا إلى التنافس الطبيعي على عدد محدود من المناصب ذات الأجور المرتفعة، ولكنها كانت أيضًا نزاعًا بين، كما وصفهم، «فيلولوجيي اللغات الكلاسيكية، والحداثيين العمليين، والمتخصصين في علم الأصوات». وذكر أن كل فصيل من هؤلاء أصبح الآن «في حالة تأهب وجاهزية» مع اقتراب بدء عمل لجنة التحقيق. وفي تلك الفترة، تم تعيين ريتشارد ليدوارد أمينًا للجنة.
- وفي الحاشية:
مذكرة وزارة الخارجية، ريتشارد ليدوارد، ٣٠ أكتوبر ١٩٤٤م، NA FO 924/98.
وقد جاءت هذه المذكرة كرد فعل على مذكرة سرية كانت وزارة الخارجية قد تلقتها مؤخرًا من «جيمس هيوارث-دَن»، كبير محاضري اللغة العربية في المدرسة، والذي، كما ذُكر سابقًا، كان في الشرق الأوسط بين عامي ١٩٤٠م و١٩٤٢م يعمل لصالح الاستخبارات العسكرية. وكانت هذه المذكرة مرفقة بنسخ من جداول أعمال لجنة رؤساء الأقسام والمجلس الأكاديمي، واحتوت على هجمات شخصية حادة ضد عدد من الشخصيات، من بينهم مدير الكلية ورئيس قسم الصوتيات واللغويات، «جيه. آر. فيرث». استمرت علاقة جيمس هيوارث-دَن المتوترة مع «رالف تيرنر» بعد الحرب، كما يتضح من الوثائق المحفوظة في SOAS R 18/4. وقد قدّم استقالته عام ١٩٤٨م.
هذه الوثيقة، تشير إلى أن دن عمل لمدة سنتين لخدمة الاستخبارات العسكرية، وأن خدمته كانت خلال الحرب العالمية الثانية، وأنه تم استقطابه لتخصصه في اللغة العربية أثناء عمله في معهد الدراسات الشرقية في لندن.
تم توجيه دن إلى تدريب ضباط سلاح الفرسان (Cavalry OCTU)، بينما تم توجيه برنارد لويس إلى الاستخبارات الخارجية، والذي قد يشير إلى أن دور دن كان ميدانيًا بينما كان دور لويس تحليليًا معلوماتيًا. ولم يكن دن محبا وراغبا لهذا الدور في الاستخبارات العسكرية، حيث أدى لمشاكل بينه وبين رئيس قسم الجامعة، وأدت إلى استقالته لاحقا في عام ١٩٤٨م، ولاحقا انتقاله إلى واشنطن دي سي.
فهل يشير اختيار جيمس هيوارث دن للعمل في الاستخبارات العسكرية بدلاً من الاستخبارات الخاصة البريطانية (MI6)، وهي الجهاز المعني بالاستخبارات الخارجية، إلى أن دوره كان ميدانيًا بحتًا لدعم العمليات العسكرية، وليس جمع المعلومات الاستخباراتية السرية أو تنفيذ عمليات تجسس كما فهم الباحثون كالعميم ورضوان السيد وغيرهم؟
تجدر الإشارة إلى أن تنظيم عمل الاستخبارات البريطانية بين عامي ١٩٣٩م-١٩٤٢م لم يكن بنفس المركزية التي أصبح عليها لاحقًا، حيث كان لكل من الاستخبارات العسكرية (تحت إشراف مكتب الحرب) وجهاز الاستخبارات الخاصة البريطانية «MI6» خطوط تقارير مستقلة إلى هيئة الاستخبارات المشتركة في المملكة المتحدة «JIC».
لم أجد خلال بحثي في أرشيف دن في مكتبة هوفر سوى ورقة واحدة مرتبطة بالاستخبارات، وهي الورقة التالية:
الصفحة الأولى من وثيقة دن للاستخبارات البريطانية
كُتب في تعريف هذه المذكرة التي عمل عليها دن بين عامي ١٩٤٠م-١٩٤٢م:
مصطلحات عسكرية طبية وتخصصية عامة
جمعها د. ج. هيوارث-دن
لاستخدام
ضباط المخابرات
الذين يعملون في
الدولة المتحدثة للعربية
وفي الفترة ذاتها، وجدت لدن وثيقة يظهر أنها طبعت في الوقت ذاته باستخدام جهاز الطباعة نفسه:
قاموس أساسي للعاملين الاجتماعيين في فلسطين؛
تم إعداد المصطلحات الإنجليزية بواسطة الآنسة م. ل. بيلشر،
كبير الأخصائيين الاجتماعيين في فلسطين،
أما المصطلحات العربية فقد أعدها الدكتور ج. هايورث-دَن،
محاضر في اللغة العربية، كلية الدراسات الشرقية والأفريقية،
جامعة لندن، المنطقة المركزية الغربية 1.
الصفحة الأولى من الوثيقة المصرية الثانية
يذكر عن دن أنه كارهٌ لليهود، وسأفصل هذا لاحقا عند حديثي عن برنارد لويس، والمهم ذكره فيما يخص الصراع العربي-الإسرائيلي أنه عين في عام ١٩٣٩م مستشارًا في لجنة لدراسة مراسلات مكماهون-حسين فيما يتعلق بفلسطين، بهدف تحديد عما إذا كانت بريطانيا قد تعهدت بالفعل بمنح أرض فلسطين للعرب، وكان هذا حيث تصاعدت التوترات في فلسطين مع تزايد الهجرة اليهودية وتنامي المعارضة العربية في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي.
مما يعضد أطروحة أن علاقة دن بمكتب الاستخبارات الخارجية كانت متعلقة بخبرته اللغوية ولم تكن بهدف أن يجمع معلومات استخبارية هي وثيقتين يصحح فيها دن الأخطاء النحوية والكتابية لترجمة شاركها معه «السيد باقالي» من مكتب الخدمة الخارجية كانت الأولى في تاريخ ٢٥ فبراير ١٩٣٩م والثانية ٢ مارس ١٩٣٩م:
الصفحتان الأولى والأخيرة من الخطاب الأول لدن للسيد باقالي من دن
الصفحتان الأولى والأخيرة من الخطاب الثاني للسيد باقالي من دن
فهل كان دن بالفعل على صلة بالاستخبارات الخارجية البريطانية؟ وهل كان كتابه «التوجهات» ملخصَ تقاريرَ استخباراتية؟ أم أن هذا محضُ وهمٍ انتفع به الإخوان وخصومهم على حد سواء؟
هذا ما سآتي في تفصيله في المقالات القادمة. وللحديث بقية.