عبدالرحمن الحبيب
صدر الأسبوع الماضي تقرير مؤشر التنمية البشرية الذي يعده مكتب التنمية البشرية في هيئة الأمم المتحدة؛ لقياس مستويات المعيشة وجودة الحياة، من خلال تقدير متوسط العمر المتوقع عند الولادة وعدد سنوات التعليم ومتوسط دخل الفرد؛ وقد أظهر المؤشر انخفاضاً بالنمو في عامي 2020 و2021 لأول مرة على المستوى العالمي منذ بدء القياس في عام 1990، وكان السبب واضحاً وهو جائحة كورونا وما حصل حينها من حجر صحي وإغلاق وتوقف لكثير من الاقتصاديات، إضافة لعبء تكاليف اللقاحات وامتلاء المستشفيات بالمرضى.
الآن مضت خمس سنين على الجائحة ولا تزال بقاياها مؤثرة، فعلى الرغم من أن المؤشر أظهر انتعاشاً قليلاً في عام 2022، إلا أن وتيرة التحسن في عام 2023 كانت الأبطأ على الإطلاق، وفيما تساءل الكثيرون عن موعد تعافي العالم، لأن البيانات تُظهر أن التراجع في نمو مستويات المعيشة يمكن أن يستمر رغم مضي هذه السنوات حسب مجلة الإيكونيميست التي تذكر أنه لعقود، بدا وكأن العالم سيصل في المتوسط إلى مستويات عالية جدًا من التنمية قبل عام 2030؛ وإذا استمر التقدم البطيء في النمو الحالي، فقد يستغرق الأمر عقودًا أطول للوصول إلى هذا الهدف.
الدول الأفضل أداء حصلت عليه كالمتوقع الدول الغنية، يقول أخيم شتاينر من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إن 97 % منها قد تعافت تمامًا أو تجاوزت درجاتها قبل الجائحة، بينما حصلت الدول الفقيرة على أقل من 60 %؛ وستؤدي تخفيضات الحكومات في أمريكا وأوروبا لميزانيات المساعدات إلى تفاقم الأوضاع في الدول الفقيرة.
درجة المؤشر من 1 للأكثر تطورًا، كان في مقدمتها دول الشمال الأوروبي التي حصلت على أعلى المراتب في معظم التصنيفات التي تقيس جودة الحياة، وأيضاً كانت الدرجة العالية للنمو من 0,9 وأعلى من نصيب دول غير غربية مثل دول مجلس التعاون الخليجي وفي مقدمتها الإمارات والسعودية، وأخرى مثل هونج كونج وسنغافورة وكوريا الجنوبية واليابان. لكن المال ليس كل شيء، إذ وجدت دراسة أجراها باحثون في جامعة براون، ونُشرت في أبريل الماضي، أن أغنى الناس في أمريكا التي تحتل المرتبة 17 على مؤشر التنمية البشرية، لديهم معدل وفيات مماثل لمعدل وفيات أفقر سكان شمال وغرب أوروبا ومعظم سكان أوروبا الشرقية (مجلة الإيكونيميست). كما يوضح تقرير الأمم المتحدة أن إنشاء مؤشر التنمية البشرية تم للتأكيد على أن الأشخاص وقدراتهم يجب أن يكونوا المعيار النهائي لتقييم تنمية أي بلد، وليس النمو الاقتصادي وحده؛ فهذا المؤشر يُبسّط التنمية البشرية ويُجسّد جزءًا فقط مما تنطوي عليه التنمية البشرية، فهو لا يُراعي أوجه عدم المساواة، والفقر، والأمن البشري، والتمكين، وما إلى ذلك، ولهذا السبب يُقدّم تقرير مكتب التنمية البشرية مؤشرات مُركّبة أخرى كمؤشر أوسع نطاقًا لبعض القضايا الرئيسية المتعلقة بالتنمية البشرية، وعدم المساواة، والتفاوت بين الجنسين، والفقر.
إلا أن التقرير يُبين أن استخدام مؤشر التنمية البشرية يمكن الاستفادة منه لطرح أسئلة حول خيارات السياسات الوطنية، والتساؤل عن كيفية اختلاف نتائج التنمية البشرية بين دولتين تتمتعان بنفس مستوى الدخل القومي الإجمالي للفرد، فهذه التناقضات يمكن أن تُثير جدلًا ومراجعة حول أولويات السياسات الحكومية.
بطبيعة الحال هناك ثغرات عديدة في مؤشر التنمية البشرية وهو يتعرض لانتقادات مستمرة، وفي مقدمتها أخطاء أو عدم دقة قياس الإحصاءات الأساسية، وكذلك التركيز على الأداء والتصنيف الوطني، وإهمالُه للتنمية من منظورٍ عالمي، وتغييرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في الصيغة الوصفية، والتي قد تؤدي إلى تصنيف خاطئ للغاية في التنمية البشرية للدول، مثل: المنخفضة، المتوسطة، العالية، العالية جدًا.
هذه الانتقادات يعمل على تلافيها مكتب تقرير التنمية البشرية، مثلما سبق أن وجهت انتقادات متعددة حول غياب مراعاة الاستدامة، ثم عُدل المؤشر حسب ما يتعرض له الكوكب من تأثيرات كتغير المناخ والاحتباس الحراري، كما وجهت انتقادات حول قصور تناول التفاوت الاجتماعي وعدم مراعاة الفارق بين الأغنياء والفقراء عند وضع المعدلات، وهذه أيضاً قد تناولها مؤشر التنمية البشرية المُعدّل.
في سياق الإشكال حول دقة المعايير، صدرت دراسة بعنوان «ما وراء الناتج المحلي الإجمالي ومؤشر التنمية البشرية: تحويل التركيز من النماذج إلى السياسة»، لبروفيسور السياسة الاقتصادية سلفاتوري موني والخبير الاقتصادي أليساندرو سبافينتا، تؤكد أنه في الجدل حول الناتج المحلي الإجمالي مقابل مؤشر التنمية البشرية، غالبًا ما يُنسى أن كلاهما مؤشران خارجيان يعطيان الأولوية لمعايير مختلفة يمكن بناء عليها تحديد كمية الرفاه المجتمعي، إنما السؤال الأكبر هو ما إذا كان من الممكن تحويل تركيز السياسة من معركة بين النماذج المتنافسة إلى آلية لاستخلاص المعلومات حول الرفاهية مباشرة من السكان.