العلاقات الإيرانية-الأميركية، دائماً ما تكون كاشفة للعديد من المتناقضات، على مستوى الخطاب السياسي في إيران، سواء ما يتم استهلاكه محلياً أو ما يتم تصديره خارجياً. فإيران دولة معقدة للغاية، ولديها طبقات عديدة من التفاعلات السياسية. فمن المستحيل أن نتمكن من فهم وتحليل الحياة السياسية الإيرانية، دون أن نضع في الاعتبار البعد القومي المتأصل في الوجدان الاجتماعي، أو بمعزل عن العمق المذهبي - الديني، الذي يشكل جزءاً أصيلاً من الوعي السياسي، ليس فقط كنظام حكم ثيوقراطي معقد، نابع من تأويلات مذهبية شيعية لمفهوم الدولة الدينية، ولكن كمكون مجتمعي أصيل، يسبق حكم رجال الدين بعد الثورة الإيرانية 1979. هذا بالإضافة إلى النزعة الذاتية التوسعية التي تسيطر على توجهات الشخصية الإيرانية بشكل عام.
تنسحب تلك الفكرة كلية على الرؤية الإيرانية لأميركا، فالمتابع للشأن الإيراني، يكتشف مساحة واسعة من التباين لدى التعامل الإيراني مع الولايات المتحدة على مر عقود طويلة من التفاعلات والصراعات. وبدون العودة إلى مرحلة ما قبل الثورة الإسلامية، والعلاقات المعقدة مع أميركا التي وضعت إيران في مفصل تاريخي، جعلت منها شرطي المنطقة في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، وصولاً إلى الدور الذي مارسته الولايات المتحدة ذاتها في الإطاحة بحكم الشاه. فما يهمنا هنا في هذا المقال هو كشف مساحات الصراع الداخلية في إيران، في اللحظة التاريخية الحالية، وإيران على وشك إتمام صفقة متكاملة الأركان مع الإدارة الأميركية بقيادة دونالد ترامب.
يمرّ النظام الإيراني الآن، بنقطة تحول غاية في التعقيد، ما يتسق مع تعقيد النظام ذاته، فكيفية التعامل الإيراني في ملف المفاوضات الإيرانية-الأميركية، يعكس أزمة وجودية تبدأ بقمة الهرم السياسي وتنتهي بقاعدة اجتماعية متشابكة ومعقدة. فأميركا ليست مجرد دولة على خلاف سياسي مع النظام الإيراني الحاكم، ولكنها جزء من بنية أيدولوجية تبناها هذا النظام منذ بداية تكوينه السياسي، فلم يكن ليُكتب لهذا النظام النجاح، لولا تبنيه خطاباً شعوبياً يعتمد على شيطنة النظام العالمي بالقيادة الأميركية آنذاك، ويقدم نفسه كبديل أسطوري قادر على مواجهة القوى الاستكبارية. وأصبح شعار "الموت لأميركا الشيطان الأكبر"، أكبر من مجرد شعار سياسي تعبوي، يقوده رجال الحوزة الدينية، ومنقوش على جدران المدن والضواحي في إيران، ليمتزج بكافة التحركات السياسية لنظام "الخميني" سواء الداخلية أو الإقليمية، بل إن الدستور الإيراني ذاته تعامل مع النظام الجديد، بوصفه المنوط به مواجهة تلك القوى الشيطانية المستكبرة ذات الطابع الاستعلائي، وتم إصدار العديد من الفتاوى من مراجع التقليد الشيعة، خاصة الموالين لتيار الخميني، تؤسس لفكرة المواجهة والصدام المباشر مع كل ما هو أميركي التوجه أو الفكر، وتمنح النظام الجديد شرعية دينية معتمدة على صراع الملائكة والشياطين.
إقرأ أيضاً: كيف يهندس النظام الإيراني الانتخابات الرئاسية؟
مزيج فريد من نوعه، بين القومي والديني لخدمة شرعية سياسية لنظام يبحث عن وجود. ومع مضي ما يزيد عن أربعين عاماً، وخلق مساحات واسعة من الصراعات والمصادمات بل والصفقات مع الإدارات المتتابعة للولايات المتحدة، يقف النظام في إيران الآن "موقف وجود"، في جولة جديدة من المفاوضات، لكن هذه المرة مختلفة عن سابقتها في 2015، أو خطة العمل الشاملة، التي تمت تحت رعاية دولية لــ 5+1، أو دول الترويكا الأوروبية وأميركا والصين وروسيا. فإيران الآن ليست هي إيران الخميني، والتحديات الحالية أصبحت أكبر بكثير من مرحلة النشأة والتطور التي مر بها النظام منذ عقود.
إيران الآن تمر بمرحلة انسلاخ أيدولوجي خطير، تحاول من خلاله أن تتعامل مع أميركا، بوصفها المنقذ الأخير أو السوبرمان، قبل مرحلة الانهيار الكامل التي يعاني منها المجتمع، خاصة على المستوى الاقتصادي. فالهدف الأخير من عملية التفاوض، هو رفع العقوبات التي تتمثل في حوالى 100 مليار دولار مجمدة في العديد من الدول، ومنها الولايات المتحدة بطبيعة الحال، وذلك حسب آخر التقارير التي تعاني هي الأخرى من تباين شديد، والأهم رفع الخطر عن بيع النفط الإيراني، الذي يُشكل مصدر الدخل الرئيسي للدولة، أي محاولة دمج إيران في الاقتصاد الدولي بشكل أو بآخر، ولتحقيق هذا الهدف يعاني النظام من تناقض واضح على أكثر من مستوى، ودعونا نجملها في نقاط محددة ومختصرة:
أولاً: اقتصاد الظل: رغم ما يبدو عليه النظام الإيراني من تماسك ظاهري، لكن في العمق هناك العديد من الانقسامات المعقدة، أهمها على الإطلاق على المستوى الاقتصادي، فمنذ بداية الثورة الإيرانية، قرر النظام أن يخلق ما أسماه اقتصاد المقاومة، كان الهدف منه في البداية هو محاولة التحايل على العقوبات الدولية والإقليمية التي عانت منها إيران بعد عدة سنوات من تأسيس الدولة الجديدة. المشكلة الحقيقية تكمن أن هذا الاقتصاد قد تحول تدريجياً إلى اقتصاد موازٍ، وسيطر عليه رجال الدين والنخب التجارية في البازار، ليصل منذ عقدين من الزمان تقريباً إلى يد النخب العسكرية أو قادة الحرس الثوري والمؤسسة العسكرية التابعة للحرس ككل، بحيث أصبح يسيطر على ما يقارب 40 بالمئة من الاقتصاد الإيراني، أو أكثر حسب بعض التقارير الدولية.
ونتيجة للعزلة الدولية التي تعاني منها إيران إلى الآن، أصبح الاقتصاد الموازي هو المحرك الأصيل للتبادلات المالية والتجارية في إيران، ما تسبب في ظهور مدرسة اقتصادية متكاملة الأركان، تعتمد على فكرة تهريب الأموال إلى الخارج، وبالطبع تحت غطاء مقدس من آيات الله. وكان هذا الاتجاه مناط خلاف قوي بين التيارات السياسية في إيران، خاصة أصحاب الرؤية الإصلاحية الذين يرون ضرورة الانفتاح على الأسواق الدولية، وكشف الجزء الأكبر من أوراق اللعب المالي على الملأ، وبين النخب المنتفعة وأصحاب الرؤية المؤدلجة والمنتفعة بعالم الظل الاقتصادي، واستمر هذا الخلاف تقريباً، منذ عهد محمد خاتمي ثم حسن روحاني وهاشمي رفسنجاني على تشدده، ولكنه كان يرى أن الاقتصاد الحر هو حل إيران، في مقابل سيطرة الحرس الثوري على المقدرات الاقتصادية، وصولاً إلى مسعود بزشكيان، الذي وُضع الآن في موقف حرج للغاية بين ضرورة الدمج الاقتصادي مع العالم، وسيطرة اقتصاد الظل على مفاصل الدولة.
إقرأ أيضاً: فيلم المنفى والمثلية والاضطهاد السياسي في إيران
حتى أنَّ بعض المراقبين يرى أن ذلك التحسن النسبي الذي حدث في سوق العملة الإيرانية والبورصة، بعد بداية المباحثات الأميركية، لا يتعدى كونه مجرد ضخ لأموال وهمية من عالم الظل، وليس تحسناً اقتصادياً مرتبطاً بتحسن الأجواء السياسية مع الولايات المتحدة. وبالتالي من الطبيعي أن نرى ذلك التناقض في التصريحات الإيرانية تجاه المفاوضات بشكل عام وأميركا تحديداً. فإيران في جانب منها ترى أن المنقذ من الانهيار الاقتصادي الوشيك هو رضا الولايات المتحدة، ولكن في جانب آخر ترى أن هذا يعني بداية نهاية اقتصاد الظل الذي اعتمد عليه النظام لسنوات.
ثانياً: النخب الدينية: اعتمدت شرعية جزء كبير من النخب الدينية من آيات الله، المسيطرين على مفاصل الحياة السياسية والدينية في إيران، على تفعيل الصراع القائم بين النظام والولايات المتحدة أو المجتمع الغربي عموماً. هؤلاء النخب الدينية أصحاب الفكر المتشدد، لهم تواجدهم الشعبي داخل الحوزة الدينية والمجتمع عموماً، خاصة أولئك الذين حققوا تواجدهم بشكل كبير داخل أروقة الحوزة أو قوات "الباسيج" المتأصلة داخل المؤسسات بشكل مركزي. ونسبتهم داخل المجتمع ليست بقليلة.
إقرأ أيضاً: مولد سيدي الرئيس
تلك النخب الدينية تمثل تياراً قوياً داخل الدولة الإيرانية، وداخل المجتمع ذاته، وكان الهجوم أو تكفير المجتمع الغربي جزءاً أصيلاً من أيدولوجيتهم. ولهم اعتراضاتهم على أي تفاوض ممكن مع أميركا، التي مثلت بالنسبة لهم الصنم الأكبر، ونقطة الانطلاق الأصيلة لاتهام كل من يدعو إلى التحرر الفكري بالكفر أو بالبعد عن نظرية ولاية الفقيه المطلقة، مما يستتبع النفي أو التهميش أو حتى السجن في بعض الأحيان. ولنا في كيفية تعامل النظام الإيراني مع أزمة 2009 والحركة الخضراء وما استتبعها إلى الآن من أي فكر إصلاحي أو تحرري، نموذج دال وواضح، على عدم قبول تلك الطائفة المسيطرة بأي انفتاح ممكن على العالم، يفقدهم سطوتهم الحقيقية على المجتمع والدولة.
ثالثاً: العسكرة والملف النووي: النظام الإيراني في المرحلة الحالية، يحاول أن يحافظ على المكتسبات العسكرية الكبيرة سواء على جانب التسليح المباشر المتمثل في مخزون هائل من الصواريخ الباليستية أو المسيرات ذات السمعة القوية على مستوى العالم، أو من الجانب الآخر من القدرات التي أصبحت مُعلنة على الملأ، من امتلاك أسلحة نووية بنسبة التخصيب التي تعدت 67 بالمئة. بحيث أصبحت إيران قادرة على إنتاج سلاح نووي في غضون أشهر قلائل. وبالتالي تحاول أن تدخل عملية التفاوض راغبة في الحصول على مكتسبات اقتصادية كبيرة من الجانب الأميركي، ولكن دون خسارة الجانب التسليحي المعقد.