: آخر تحديث

ملتقيات الفن هل هي مضيعة للوقت؟

3
4
3

شهدت السنوات الأخيرة تطوراً ملحوظاً في عالم الفن التشكيلي، خاصةً في الدول العربية في تنظيم معارض الفن وملتقيات النحت. تتنوع هذه الفعاليات بين النحت والرسم والتجهيز الفني في الفراغ، لتفتح الباب أمام تجارب جديدة تثري المشهد الثقافي وتعزّز من الوعي المجتمعي بأهمية الفن كوسيلة للتعبير والتغيير.

ومع انتشار هذه الملتقيات، يَبرز سؤال محوري: هل هي مضيعة للوقت في ظل الأزمات، أم أنها دعوة للترفيه ونافذة لإعادة اكتشاف الجمال؟

في الماضي، كان النحت فناً نخبوياً بامتياز، لا يكاد يتجاوز نطاق القاعات المغلقة أو البيوت الفخمة. أما اليوم، فقد تطورت هذه الصورة مع بروز ملتقيات النحت التي نقلت هذا الفن إلى مساحات عامة وأماكن مفتوحة. هذه الملتقيات لم تُعد مجرد تجمعات فنية، بل أصبحت جسراً للتواصل بين الفنان والجمهور.

مشاهدة مراحل العمل النحتي، من الكتل الخام إلى التشكيلات النهائية، منحت الجمهور فهماً أعمق لتفاصيل العملية الإبداعية. هذه التجربة، التي تجمع بين التعلم والمتعة، أسهمت في كسر الصورة النمطية عن الفن كشيء بعيد أو معقد، وقرّبته من الناس.

إقرأ أيضاً: رحلة بين عالمين مختلفين

توفر الملتقيات مساحة للنحاتين لتطوير مهاراتهم من خلال التعامل مع خامات جديدة، مثل الرخام والبازلت والغرانيت، باستخدام أدوات وتقنيات حديثة. كما أن التفاعل مع زملاء من مختلف الخلفيات الثقافية والفنية يفتح آفاقاً أوسع للنحات، ويتيح له استلهام أساليب مبتكرة قد لا يجدها في بيئته المحلية.

هذا التبادل الثقافي لا يقتصر على تحسين مهارات النحاتين فحسب، بل يعزز لديهم شعوراً بالانتماء إلى مجتمع فني عالمي، حيث يتشاركون القيم الإبداعية ويتبادلون الخبرات.

وجود هذه الفعاليات في أماكن عامة يجعل الفن في متناول الجميع. الجمهور الذي يمر بالموقع لا يشاهد فقط المنحوتة النهائية، بل يتابع مراحل الإبداع خطوة بخطوة، مما يعزز تقديره للجهد المبذول.

كما أن المنحوتات التي تظل في الفضاء العام تتحول إلى معالم جمالية، تضفي على المكان روحاً جديدة، وتحث المجتمع على الاهتمام بالذائقة الجمالية.

إقرأ أيضاً: هل تُستعاد لسوريا قوتها الاقتصادية؟

رغم الحروب والأزمات التي تعصف بالعديد من الدول، يظل الفن وسيلة فعالة للصمود والتعبير عن التحديات. الفنانون المشاركون في الملتقيات يقدمون رسالة أعمق من مجرد الإبداع الفني؛ إنهم يعبرون عن الإصرار على الحياة واستعادة الروح الإنسانية.

خلال الأزمات، قد يبدو النشاط الفني رفاهية لا مبرر لها، ولكن الواقع يشير إلى عكس ذلك. الفن لا يعيد بناء المدن فقط، بل يرمم أرواح سكانها، ويعيد إليهم الأمل والجمال وسط القبح الذي تخلفه الحروب.

يختلف اختيار موضوعات المنحوتات من نحات إلى آخر. البعض يلتزم بتوجيهات الجهة الراعية للملتقى، في حين ينطلق آخرون في التعبير عن تجاربهم الشخصية وأفكارهم بحرية.

غالباً ما تعكس المنحوتات تأثير البيئة المحيطة بالفنان. الطبيعة، التاريخ، التحديات اليومية، وحتى الأزمات، كلها تتحول إلى مصادر إلهام يترجمها النحات إلى عمل فني يحمل في داخله قصة ورسالة.

تساهم ملتقيات النحت في نشر ثقافة الجمال، وتقديم الفن كوسيلة لبناء المجتمعات. عندما تصبح المنحوتات جزءاً من المشهد اليومي، فإنها تخلق وعياً جمالياً يمتد أثره للأجيال القادمة.

إقرأ أيضاً: لو كنت رئيساً لسوريا

علاوة على ذلك، تعمل هذه الفعاليات كمنصات لتمكين الشباب، وإلهامهم للانخراط في عالم الفن، سواء كفنانين أو كمحبين له. هذا الدور يجعل الملتقيات أكثر من مجرد تجمعات، فهي أدوات للتغيير الثقافي، وتساهم في خلق مجتمع أكثر وعياً وانفتاحاً.

قد يراها البعض ترفاً لا داعي له، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية والسياسية. لكن الواقع يثبت أن الفن، رغم الظروف القاسية، يظل عنصراً أساسياً في معركة البقاء.

النحاتون الذين يشاركون في الملتقيات ينقلون رسالة واضحة: يمكن للجمال أن يكون قوة مؤثرة في مواجهة القبح. وهذا لا يقتصر على الجانب البصري فقط، بل يمتد إلى تعزيز الروح الإيجابية، وإعادة بناء الهوية الثقافية.

الانتقادات الموجهة لهذه الفعاليات غالباً ما تتعلق بالكلفة أو أولويات المجتمعات. ومع ذلك، فإن التجربة تُظهر أن هذه الملتقيات ليست فقط وسيلة للترويح، بل أداة فعالة لتعزيز الوعي الفني، وبث روح الأمل، والتواصل بين الأفراد على مستوى أعمق.

إقرأ أيضاً: الحنين والهجرة... وأثر الحروب

ملتقيات الفن التشكيلي، وبخاصة النحت، تُعد أكثر من مجرد فعاليات ثقافية؛ إنها منصات للتعبير عن الروح الإنسانية، وتجسيد قيم الجمال، والصمود أمام التحديات.

في نهاية المطاف، لا يمكن حصر دور الفن في زاوية واحدة. فهو يُعبّر عن الحياة بكل تناقضاتها، ويعيد صياغة المشهد اليومي برؤية جديدة تحمل في طياتها الأمل والإبداع. وبينما يراها البعض مضيعة للوقت، تظل هذه الملتقيات دعوة لإعادة اكتشاف الجمال في كل لحظة من الحياة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.