: آخر تحديث
هاشتاك الناس

بروفيسور مهدرج

34
38
29

عندما كتبتُ الأسبوعَ الماضي عن بعض تُرَّهات العلم في جامعاتنا؛ حدث ما يُشبه الاتفاق العلمي. بعضهم طلب مني المزيد من الكتابة لتعرية الواقع الجامعي، والبعض وجدها فرصةً للتعليق؛ بهدف التنفيس عن همومٍ تقبع في الصدور: "مقالة تشفي الغليل"، و"في الصميم"، و"على الجرح" و"أصبت كبد الحقيقة"؛ لأن الذي يسكن في الجامعات يعرف أن المؤسسة التعليمية تحوَّلت إلى "خان جغان" لتوطين الجهلة؛ يُمارَسُ فيها نحر العلم من الوريد إلى الوريد في مجال: الترقيات العلمية، والبحوث، والمؤتمرات، وبحوث الطلبة.
    
صارت الجامعة تنتجُ "مشاوي مشكلة" للجهل والتجهيل، و"تبولة" متنوعة من الباحثين، بدون نكهات العلم الجميل؛ فالبروفيسور المنتج في مفاقس الجامعة يحمل جيناتٍ لبيئة فاسدة ورطبة بدون تهوية صحية؛ إخوانيَّات، ورشاوى، وأحزاب، وميليشيات، وجلسات طعام وسمر، كلها تعمل في حاضنات ملوَّثة بغُبار الكذب والخداع، والتمويه والتضليل. 

فالترقيات العلمية في الكليات دخلت لها أمراض السياسة كالفساد والوساطة والإخوانيات والحزبية والمناطقية؛ بل أصبحت بعض الكليات تابعة لهذا الحزب أو ذاك؛ حيث ساعد هذا الأمر إلى صعود نماذج من التدريسيين يعانون من العقم العلمي، والعوَق المعرفي. 

انقلبت معظم لجان الترقيات إلى لجان للمساومة والإقصاء والثأر من المبدعين؛ فكان الكثير منهم ضحية هذه المافيات العلمية التي أعاقت ظهورَ الأستاذ المرموق بطرقٍ غير أخلاقية أو مهنية؛ بينما شهدنا مآسي صعود "كتاكيت" علمية فاشلة إلى مرتبة "الأستاذية"، بعد إن تم هدرجتهم في مكائن الجهل والأميَّة الجامعية.  

الأستاذية أصبحت "زي الشوربة أو المية" -كما يقول إخواننا المصريون-في جامعاتنا، حتى طافت بجموع الجاهلين. ففُقِد بريقها اللامع مثل بريق الدكتوراه؛ فأصبحنا نتذكر أيام عز العلم، ورفعة مقام أساتذتنا الذين لا نسمع منهم أنين عقدة الأستاذية، ولا همس غرور المعرفة. 
كانت الجامعات تفتخرُ بالعقول -وليس بالتسميات والألقاب-؛ لذلك لم تزدحم بألقاب الأستاذية إلا ما ندر؛ فكانت أعدادًا لا تتعدى أصابعَ اليد. شخصياً ما عدت أشعر بقيمة الدال واللقب بين هذا الضجيج المقرف بالتسميات والالقاب!             

منذ تأسيس قسم الإعلام عام (1964)، وحتى تحويله إلى كلية الإعلام عام (2002)؛ لم يكن فيها إلا بضع تدريسيين يحملون لقب "الأستاذية"؛ بينما اليوم ترتفع الحصيلة إلى أرقامٍ فلكيَّة، لا تستوعب قانون النسبة والتناسُب، ولا معايير الجودة العلمية، ولا أصول الترقيات الجامعية وشروطها؛ فنحن أمام كوارث مركَّبة، وفوضى في توزيع الألقاب العلمية لمن لا يستحقها، ترهُّل علمي بالألقاب، وفواجع من الوزن الثقيل!
 
لسنا ضدَّ الحصولِ على "الأستاذية"؛ فهو حقٌّ من حقوق التدريسي؛ لكننا ضد هذه الهدرجة السيليَّة التي تُسيئ لسمعة الجامعة، وتحطُّ من قيمة اللقب العلمي. من حق الجميع أن يحصل على لقب الأستاذية، شرط أن تكون بحوثه أصيلة وجديدة، تستوفي معايير الجودة العالية والدقة العلمية، وتقدم شيئاً مبتكرًا وعمليًّا للمجتمع؛ لا أن تكون نظرية بحتة، غارقة بالتنظيرات والإنشائيات المطلقة للظواهر. 

والأهم أن تذهب إلى مقيّم علمي رصين لا يعترف بالإخوانيَّات وألقاب القبائل والأحزاب، لأن ما يحدث اليوم صفقات سرية في اختيار المقيم حسب لونه الحزبي، وتفكيره المنسجم مع الواقع، وشخصيته العلمية في القبول بالمساومات والصفقات!       

ما بعد عام (2020)، حدثت الكارثة في جامعتنا، أصبحنا نشهد تناسل الألقاب العلمية بشكلٍ لا يخطر على بال أحد؛ مجلات (سكوبيس)، ومكاتب بيع البحوث السرية والعلنية، تقودان عملية تجهيز الألقاب العلمية بطريقة خطيرة؛ بحوثٌ يصنعها باحث واحد، وآخرون يختفون وراءه؛ ليخرج البحث بأسماء عدة. مع ان هذا الباحث المبني للمجهول لا يجيد كتابة مقدمة بحث، ولا الكتابة باللغة الإنكليزية. 
للحق، فإن هذه الظاهرة ليست ابتكارَ عراقي؛ فهي ظاهرة عربية بامتياز، انتشرت في حياتنا العلمية كالنار في الهشيم.  

أتحدث عن تجربة عمليَّة، فقد قيَّمت عام (2021) عشرة بحوث للترقية للأستاذية، ولم أجد إلا بحثاً واحدًا يستحق الترقية. بينما وجدتُ في الكثير منها مقالاتٍ إعلاميةً، أو تُرَّهاتٍ علميةً إنشائيةً؛ يكثر فيها الإطناب والإسهاب، وحشو الكلام، ويغيب عنها المشكلة الحقيقية، والدراسات السابقة الحديثة، والأرقام والإحصائيات والمصادر الجديدة، والتحليل المنطقي. 

صار لديَّ يقين وأنا اقرأ هذه البحوث المتشابهة بالموضوعات والنتائج؛ بأنها نِتاجٌ لجامعاتٍ هزيلة "نصف ردن"، وأن معظمَ بحوثها ماهي إلا إعادة تدوير لبحوث في الجمع والمعالجة، أو إنها مُستلَّةٌ من بحوثِ تخرُّجِ الطلبة، أو مصنوعةٌ من مخازن الزمن القديم!        

يا لها من مفارقة عجيبة؛ اختفاءُ مفاقس البيض في العراق، وظهورُ مفاقسَ جديدة في الجامعات، اسمها: مفاقس الأستاذية المهدرجة بغاز الهيدروجين عديم اللون والرائحة. لكن المفارقة الأغرب؛ شيوع إطلاق كلمة "بروفيسور" على أسماء المطاعم والمقاهي ومحلات بيع الملابس والحلويات. ربما لشيوع اللقب العلمي وكثرته هذه الأيام؛ فتقرأ على سبيل المثال "حلويات البروفيسور" لصاحبه أبو ناجي، و"بيتزا البروفيسور" لصاحبه الصادق، و" فلافل البروفيسور " لصاحبه نعومي. 
صار اللقب علامة تجارية بعد إن كان علامة علمية مرصعة بالعلم الرصين؛ ضاع بين كتاكيت اللقب والشاورما والفلافل وحلوى لقمة القاضي!

                                                     
[email protected]                                                


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في