: آخر تحديث

لماذا نحفرُ في الماضي لنردمَ وندفن الحاضرَ والمستقبل؟

40
41
29
مواضيع ذات صلة

كم كان مصيبا ذلك الفيلسوف المفكّر الذي قال ان التأريخ لا يرحم !

من قال ان التاريخ عفا عليه الزمن وتم طمره في أخاديد عميقة ؟!

ها هو يظهر الان بكل قامته الفارعة بطَلا يهابه الجميع ويذعن لكلامه السامعون وتمتدّ اليه الرقاب تذللاً وطاعةً ولم يسلم حتى الابطال والنخب البارزة في مجتمعنا من الرضوخ لأوامره والانصياع لجثثهِ التي نفخوا فيه الحياة وبُعثت فيه الروح فغدا يأمر وينهي، يأمر بالمنكر وينهي عن المعروف يُبرز الباطل ويطمر الحقّ وينتقي العوَج مسارا ويبعد عن الطريق القويم ووصل الامر الى أعالي قومنا وصفوة مجتمعنا حتى بدأت مشايخنا تتفنن في فرش فتاويهم في اسواق النزاعات وينادون الملأ المتعب من الناس الذين غمرهم الجهل ويزعقون بملء افواههم للترويج على بضائعهم الفكرية الفاسدة ووصلت حدّ ارغام الناس على اقتنائها وارتضيناها خوفا من سيوفهم وطمعا في إرضائهم.

الغريب انهم نسوا طريق حاضرهم المليء بالمطبّات والعثرات الجسام وكان الأحرى أن يقوموا بتسويته وتسليكه للوصول الى مستقبل مزهر؛ ولكنهم لم يعملوا على ردم الهِوى السحيقة بل أمسكوا بمعاولهم وبدأوا بنبش الماضي وإظهار العِظام  الهشّة النخِرة لتقديسها وعبادة الرفات الملوّث بكل عفَنهِ ورائحتهِ التي تزكم الأنوف.

وتتردد على مسامعي بين فينة وأخرى مقولة فيها الكثير من الصواب مفادها "إنْ تخاصَمَ الماضي مع الحاضر المعاش فان الخاسر الوحيد هو المستقبل".

وليس بعيدا عنا كم خسرنا نحن في هذا الظرف العصيب الذي نعيشه من الموارد البشرية والمادية المهولة بسبب تلك النزاعات التي لا معنىً لها والاصطفافات الطائفية الكريهة والتكتلات الضيقة الافق التي تمّ تغذيتها من مائدة الماضي السامة القاتلة؛ وكم فرغت عقولنا وأرواحنا من قيم التسامح والمحبة والعفو والسلام واستيعاب العقل الاخر والاقتناع بالتعددية فصارت جرداء قاحلة الاّ من الكراهية والعنف والحنق وإشاعة الموت المجاني وتفخيخ العقل والقلب بهوس العداوة والبغضاء فصارت بقاعنا سوحا للدماء وحلبات للمصارعة ومهوى للانفجارات ومهبطا لوحي الشياطين والأبالسة ممن تزيّوا بعباءة الدين تظليلا وسترةً لنوازع الشرّ الكامنة فيهم واعتلوا عِمّة الزيف والخديعة غطاءً لرؤوسهم التي تثير المكائد والدسائس كي يبقوا جاثمين على صدورنا؛ فمثل هؤلاء يعتاشون على إثارة الأزمات واصطناع العداوة والنفخ في الرماد لإظهار جمراته فلا يستطيعون المكوث والاستعلاء في مناخ سياسي واجتماعي صحي سليم ولا يريدون ان يستقرّ المجتمع وتهنأ الأوطان؛ ففي استقرارها إبعاد لهم، وهل تترعرع الجراثيم والعفن وتنتشر الاوحال ويعلو نقيق الضفادع وتبطش التماسيح النهمة الاّ في المستنقعات الراكدة؟!

أعجب كيف لا تفكّر شعوب واعية ذكية، عريقة المحتد والمنبت مثل بلداننا العربية والإسلامية بمستقبل مزهر يكاد يكون قريبا منها لو أمسكت زمامه بحزمٍ وبأيدٍ واثقة لان شعوبنا تحوز ثروات بشرية هائلة وخزينا ستراتيجيا من النفط والمعادن الاخرى ما يفوق الكثير من الشعوب مع قدرات يمكن ان تكون خلاّقة  لو تمّ تفعيل العقل العربي وغربلته من ملوّثات الماضي وصراعاته الدموية، وفتح أبوابه على مصراعيها لتحديث ذهنيته وإطلاق نوافذه لرياح الحرية كي تمرح في ربوعه وتجديد فكره وتنويره بأنظمة حكم حديثة تُبنى على النهج الديمقراطيّ واستيعاب الخلافات ووجهات النظر الأخرى بقلب مفتوح رحب الصدر؛ لكن هناك بين ظهرانينا وممن ترعرع في اوساطنا ونحسبه ضمن نسيجنا من أخوة يوسف لا يريد لنا ان نصحو وننهض؛ فهم على شاكلة مثَلِنا العربيّ المأثور (قومي همُ قتلوا أميمَ أخي)؛ ويبدو اننا وقعنا تحت تأثير هؤلاء فعملوا على تخديرنا وتنويمنا نوما جماعيا وبثّ الهزال في عقولنا وأجسامنا وإضعاف مقدّراتنا عن عمْدٍ وإصرار لنبقى أسارى ماضٍ مثقلٍ بالدم والكراهة وضيق الافق.

هناك حالات من العجز والتكاسل تصيب الشعوب يسمونه علماء النفس "التنويم الجمعي للعقل" لا يختلف عن التنويم المغناطيسي للفرد وأظن اننا واقعون تحت تأثيراته، أضعنا حاضرنا ومستقبلنا وتشبثنا بمنعرجات ماضٍ اسود مظلمٍ معيقٍ وهادم مع ان الماضي ليس كله صفحة سوداء لكننا وقعنا في دروبه الحالكة المظلمة وغفلنا عن مواطن تألّقه لاننا عصّبنا عيوننا واخترنا النوم في جانبه المظلم وتركنا الساطع المنير المشرق لبثّ الصحوة فينا ولم نحسن غربلته وأغلقنا نوافذنا عن شمسه المضاءة.

اجل ربما يكون الماضي ليلاً معتماً ولكن يا لهُ من ليلٍ مرصّعٍ بالنجوم فاهتدوا بنجومه اللامعة الجميلة الوضاءة ولا تضيّعوا أنفسكم وأهليكم وآمالكم وأهدافكم في دروب الماضي المعتمة ومتاهاته التي لا مخرج منها.


[email protected]


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي