: آخر تحديث

كابوس الاستقالات من العمل بأمريكا

46
39
45
مواضيع ذات صلة

وفقًا لما جاء في البيانات الصادرة عن وزارة العمل الأمريكية، ترك ما مجموعه 11.5 مليون عامل وظائفهم، خلال الأشهر الماضية من هذه السنة. وتشير بعض التوقعات إلى أنه من المحتمل ألا ينتهي الأمر عند هذا الحد؛ لأن دراسات استقصائية توصلت إلى ان هناك مرشحين آخرين من مهن عديدة، يفكرون في الاستقالة، ومن بينهم موظفين يطمحون إلى إقتناص فرص جديدة، ويخططون لإجراء تغيير في أنشطتهم الوظيفية في الأشهر الآتية من السنة المقبلة.

الخبراء مند تفشي الوباء عالميا كانوا يتحسسون الوضع ويبحثون عن طرق للإشارة اصطلاحيا إلى الظاهرة التي ستتكشف أمامهم فرسوا على عبارة موجة "الاستقالات الكبرى" استلهاما لفترة الركود الكبير الذي عرفت تفاقما في أعداد العاطلين ضحايا الجشع الرأسمالي ومضارباته… أما بالنسبة إلى الاقتصاديين منهم أو الإعلاميين على الأخص الذين تبنوا المصطلح في خرجاتهم، كان هذا مقصودا لتذكير الأمريكيين بالأزمة الماضية ولإعادتهم إلى دروس فترات الانكماش الاقتصادي و"الكساد الكبير" التي كانت موجعة.

فغالبا، ما تنتزع مثل هذه الاصطلاحات، المتقاربة في الشكل والمحتوى، كاستعارات مأخوذة من لحظات الماضي الأمريكي المأزوم واستخدامها كمجهر لغوي لكيفية فحص أعراض الحاضر.

وجد العمال الأمريكيون، إذن، أنفسهم في خضم تغيير هائل، وسط تداعيات جائحة كوفيد، وكان من الضروري، بالنسبة للمراقبين والمحللين، أن يستمروا في فهم ووصف، هذه الموجة من الاستقالات الجماعية، المتتابعة وغير المعهودة، بدلا، من الترهيب بحلول حقبة جديدة، من إنهيار قيمة العمل، وحتى مكانته في عيون ضحاياه، وبنفس التخوف، الموروث من صدمات الأزمات السابقة.

والتركيز على الأسباب الأساسية، التي ستعيد ترتيب علاقة الأمريكيين، بمفهوم "الوظيفة" في قلب مجتمع ما زال يترنح، بفعل ضربات الوباء الفتاكة، بدل اللجوء الى  تفسير ظاهرة الاستقالات من الوظائف، بتغيير مزاجي عرضي في اختياراتهم.

ولكن ربما، يكون أكثر ما يميز ظاهرة هذه الاستقالة الجماعية، هو أن جوهرها الرئيسي، قد يكون في ما يمس في العمق، قيم الرأسمالية الأمريكية وتصورها لمكانة العمل. ويبقى مطروحا، في المقام الأول، السؤال المباشر الحقيقي؛ هو لماذا يترك بسطاء الأمريكيين وظائفهم؟

هل بسبب ذلك الإجهاد والإرهاق المتفشي، الذي لوحظ في عز حصار الوباء، ام هو ثقل التحول إلى إجبارية "العمل عن بعد" غير المعهودة، في تاريخ نشاطهم العملي.

اذن، هي ربما إعادة التنظيم الجذري للقيم، التي تدفع الناس حاليا في أمريكا، للإنفتاح وإعادة بناء علاقتهم بالحياة، مع عائلاتهم، ومع جماعات تقتسم السمات الطبقية ذاتها، وعموما في دوائر أنشطة حياتهم خارج العمل، وتؤكد إعادة ترتيب الأولويات الكبرى، والتفرغ لما هو أكثر أهمية.

أثار الوباء، تساؤلات حول العلاقات النفسية والعاطفية، للعديد من الأمريكيين بوظائفهم. لطالما كان العمل تتويجا اجتماعيا للأمريكيين، وفي الوقت نفسه، بالنسبة للعديد منهم، العمل ليس مجرد شيء يقومون به - إنه جزء من صميم هويتهم.

فالمعروف، ان كثير من المفكرين الأنجلوساكسونيين، طرحوا صيغا مختلفة، من فكرة واحدة مؤسطرة، وهي أن الكدح في العمل المتواصل، يعطي دوما معنى لنمط الحياة الأمريكية.

لكن مؤخرا، تلقت هذه الفكرة، زلزالا كبيرا خلال تداعيات الوباء، حيث بدأ يشكك الكثيرون، في هذا الدور الضخم الذي صار يلعبه العمل، و يقضم شيئا فشيئا من مناحي حياتهم.

فلهذا ربما، ترك الملايين من الأمريكيين، من القطاعات المهنية (مثل القانون والأعمال التجارية إلى أعمال البيع) وظائفهم في الأشهر الأخيرة، وغالبا بحثا عن بدائل أكثر أمانًا أو أقل ضغطًا أو حتى كليهما. وفي بعض الحالات، قد يكون الحجر الصحي، الذي تم خلاله تسريح العديدين، قد وفر بالفعل هذا الدافع الملموس للتغيير. وربما هذه الاضطرابات الوبائية، أعطت مساحة للتنفس للكثيرين ولإعادة التفكير. وأظهرت أيضًا، للكثير من الأمريكيين، أن التغييرات الكبيرة في طريقة تدبير الحياة ممكنة، حتى لو لم تكن بعض هذه التغييرات مثالية بالضرورة، فإن النقطة المهمة هي أن الوظيفة، لا تحتاج إلى أن تكون نشاطا ثقيلا صعبا، ويستهلك بالكامل القوى الباطنية، ويزاحم كل شيء آخر في الحياة، قد يكون من شأنه، أن يحرر الأمريكيين، إلى حد ما، من ذلك الاستبداد الوظيفي، بالفهم الرأسمالي المتوحش طبعا…

يبدو الأمر وكأنه حلم واقعي - فكرة أن بإمكان الأمريكيين الآن، اختيار العمل أو عدم العمل بناءً على رغبتهم، بدلا من الشعور بالتهديد المعيشي وبالعطالة وبالتشرد. لكن ربما، من بعض النواحي، جعلت تجربة الجائحة، تلك الأمنية في التحرر من العبئ الوظيفي، قريبة قليلاً من إمكانيات ما يتيحه الواقع الأمريكي الراهن.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في