منذ بروزها في نهاية السّبعينات،ومطلع الثمانينات من القرن الماضي،راهنت حركة النهضة التونسية على مسألة الهويّة،جاعلة منها قضيّة أساسيّة،وجوهريّة في خطابها،ومنهجها الديني،والسياسي والإيديولوجي.وفي السّنوات الأخيرة من حكم بورقيبة، سبحت هذه الحركة ضدّ التّيّارات،والقوى السياسيّة التي كانت تناضل من أجل الديمقراطيّة،وحريّة التّعبير،وهيمنة الحزب الواحد لتنادي من خلال المساجد،ومن خلال منوشوراتها النظريّة إلى ضرورة ما كانت تسمّية ب"تصحيح الهوّية" التونسيّة" المشّوّهة"، و"نصرة الإسلام".ومعنى هذا أنها تحاشت التطرّق إلى المسائل،والقضايا التي كانت تشغل الرأي العام في تونس لتركّز نضالاتها على مسألة الهويّة والدين بآعتبار المشروع البورقيبي في هذين المجالين،"مشروعا متفرنسا" يهدف بحسب الغّنوشي إلى نزع ما يسمّيه ب"الهويّة العربيّة-الإسلاميّة"عن الشعب التونسي.كما شدّد الغنوشي في مجمل كتاباته النظريّة في الفترة البورقيبيّة،وما بعدها على أن يكون الإسلام هو المصدر الأساسيّ في تسيير شؤون الدولة ومؤسّساتها،وفي بلورة التّشريعات،بل وحتّى في الحياة اليوميّة للتّونسيين.ولفرض أطروحاتها،لم تتردّد حركة النّهضة آنذاك في آستعمال العنف ضدّ الأفراد والجماعات المعارضين لها،وضدّ أجهزة الدّولة نفسها.وعاملت حركة النهضة المرأة كما لو أنها " ناقصة عقل ودين"،ناكرة دورها في بناء المجتمع كما أقرّته "مجلّة الأحوال الشخصيّة"،معتبرة حريتها التي آكتسبتها في دولة الإستقلال "مخالفة للشريعة" .وبعد سقوط نظام بن علي في الرّابع عشر من جانفي-يناير 2011 أعادت حركة النّهضة التّركيز على مسألة الهوّية،و"نصرة الإسلام" وكأنهما كانا السبب ألأساسي في آنفجار الغضب الشعبيّ على بن علي ونظامه.وراح الغّنوشي،وجماعته يلحّون على المسألتين المذكورتين على المنابر،وفي المساجد،وفي الإجتماعات الشعبيّة في مختلف أنحاء البلاد.فلكأنّ الشعب التونسي فقد هويّته بسبب بورقيبة،وبن علي،وبات منسلخا عن ثقافته،وعن دينه،وفاقدا للبوصلة بحيث لا يدري من هو،وإلى أيّ جنس،وثقافة هو ينتمي.وقد نجحت حركة النهضة إلى حدّ بعيد في جرّ خصومها من التيّار ات اليساريّة تحديدا،إلى فخّ" الهويّة"،و"نصرة الإسلام" لتلهيها،وتشغلها عن الخوض في القضايا الجوهريّة المتمثلة بالخصوص في الحريّة،والكرامة’والعدالة الإجتماعيّة.وبذلك لم يعد الصّراع السياسي مركّزا على مشاكل أساسيّة مثل الشغل،والبطالة،والفوارق بين المناطق،والبيئة،والحريات العامة،والخاصّة،بل حاد عن أهدافه ليدور حول النقاب،واللحيّة،وطريقة اللّباس،وختان البنات،وغير ذلك من المسائل التّافهة التي تغرق المجتمع في الجدل العقيم.
والحقيقة أنه لوأنّنا دقّقنا النّظر في أطروحاتها،وفي أفعالها،وأعمالها،لوجدنا أن حركة النهضة هي الغريبة عن طبيعة المجتمع التونسي،وعن عاداته،وتقاليده وعن روحه.فمنذ البداية هي نشأت منبّتة،لا جذور لها في التاريخ التونسيّ،ولا صلة لها بالمفاهيم،والقيم التي ترسّخت في المجتمع التونسي من خلال شيوخ،وفقهاء أفذاذ ساهموا مساهمة فعّالة في حركة الإصلاح والتّحديث من أمثال آبراهيم الرياحي،ومحمود قابادو،وسالم بوحاجب،ومحمد بيرم الخامس،وعبد العزيز الثعالبي،والشيخين الطاهر،والفاضل آبن عاشور.وجميع هؤلاء نبذوا العنف،والتطرف،داعين إلى التّسامح،والإنفتاح،والحوار مع الآخر القريب،والبعيد.
أمّا حركة النهضة فقد تغذّت من أدبيّات الحركات الأصوليّة المتطرّفة في المشرق العالم الإسلامي،وفي مصر تحديدا مثل حسن البنّا،مرشد الإخوان .لذلك يجدر بالغنوشي وجماعته ان يتثبّتوا هم في هويّتهم قبل ان يطلبوا من التونسييّن ان يفعلوا ذلك.فأفكارهم،وطرق تعاملهم مع المخالفين لهم في الرأي،والعقيدة،وروؤيتهم للدين والحياة،وكلّ هذا يثبت بالدليل القاطع أنهم منسلخون عن المجتمع التونسي،ومتنكّرون لمبادئه،ولأصوله،وحبّه للحياة.وما أظنّ أن النهضة ستتخلى عن أطروحاتها المذكورة حتى بعد أن أعلنت خلال مؤتمرها الأخير أنها عازمة على الفصل بين الدعوي والسياسي.فغياب البرامج الإقتصادية والإجتماعية والثقافية عندها،سيجعلها تعود دائما وأبدا الى قضية الهوية،والى قضايا أخرى لا تمت بصلة لا للواقع ولا للتاريخ.وأكثر من مرة،صرح عبد الفتاح مورو الرجل الثاني في النهضة بأنه ينبغي العمل على خلق جيل جديد يكون متطبعا بأطروحات حركته،ومتنكرا لأطروحات بورقيبة ورجال الإصلاح والتحديث.
واليوم هناك في العديد من المدن والقرى رياض اطفال ومدارس قرآنية تجبر فيها فتيات صغيرات دون سن العاشرة على وضع النقاب أو الحجاب!