باسمة، وواثقة من نفسها، دخلت الى القاعة الفسيحة.
جذبت الكرسيّ الى الخلف قليلا، ثم جلست، وراحت تَتمعّن في وجوه نساء ورجال لجنة مسابقة التشجيع على المطالعة التي نظمتها ولاية نابل التونسيّة خلال عطلة صيف2016.
نظراتها الجريئة، والهيأة المتعالية التي آتخذتها في جلستها، أشعرت الجالسين أمامها، بأنها هي التي ستمتحنهم، وليسوا هم الذين سيفعلون ذلك.
وعندما طلب منها رئيس اللجنة الذي تجاوز سنّ الثمانين، تقديم نفسها، ظلت صامتة لبضع لحظات، ثم قالت بإنها تدعى رؤى الشامخي، وإن عمرها 8 سنوات. وهي تعشق المطالعة. وعلى المكتبة العمومية بالمدينة، تتردّد أكثر من مرة في الأسبوع الواحد لتختار الكتب التي تحبّ قراءتها.
صامتة، عادت تحدّق بشيء من التحدي في وجوه ممتحنيها، ثم أضافت قائلة:”أنا لا أريد أن أقدم مُلخّصا للكتاب، أو للكتب التي قرأتها، وإنما أرغب في أن أعرض عليكم قصة كتبتها مؤخرا من وحي الأحداث الأليمة التي تعيشها تونسنا الحبيبة منذ ما يزيد على الخمس سنوات!”
أصيب أعضاء اللجنة بالذهول، إذ أن البنت الصغيرة الجالسة أمامهم، أربكتهم، وأشعرتهم بأن الصغار يمكن أن يكونوا أكثر وعيا منهم بوضع بلادهم، وأشدّ منهم حبّا ووفاء لها!
عنوان القصة:”تحت ظلال الزيتون"
سألها أحدهم: ولماذا الزيتون؟
أجابت: الزيتونة هي الشجرة الأكثر قدما في بلادنا. لذا باتت رمزا لها. والزيتون يرمز الى السلام والمحبّة!
آزداد أعضاء اللجنة دهشة وآرتباكا. فالبنت الصغيرة قوّضت في رمشة عيْن، سوء ظنهم بالأجيال الجديدة المنصرفة الى الأجهزة الإلكترونية آنصرافا يكاد يكون كليّا. والكتاب لا يعني لها شيئا. لذا هي أجيال عقيمة بلا ثقافة، وبلا مبادئ مثلما هو حال الأجيال القديمة.
تدور أحداث القصة في قرية صغيرة، تكاد تكون منقطعة عن العالم. قرية تكاد موارد الحياة فيها منعدمة. ومن حولها ترتفع جبال عارية، موحشة، تحلق فوقها الغربان. أهلها يعيشون الجهل والفقر. والعلاقات بينهم سيئة. لذا تكثر الخصومات والنزاعات في ما بينهم. وكلّ فريق منهم يُحَمّل الفريق الآخر ما يعانيه من شظف العيش. وكانت هناك فتاة صغيرة وجميلة تدعى نبراس، تتطلع الى ما حولها بكثير من الألم والحيرة. وكثيرا ما كانت تهيم على وجهها في البراري العارية منشغلة بالتفكير في مصير أهل قريتها. وشيئا فشيئا بدأت تلك البنت الصغيرة الذكيّة تدرك أسباب شقائهم. لذا شرعت في العمل من أجل فضّ النزعات في ما بينهم، ليصبحوا متضامنين، متحابين، منصرفين الى العمل بهمّة وعزم، مُتحدّين قسوة الطبيعة وشحّها. وهكذا راحوا يغرسون الزيتون واللوز في الأرض الصلبة الى أن تحولت تلك القرية العارية الى رياض خضراء جميلة. وأما نبراس فقد أصبحت سيدة تحظى بالتقدير والإحترام من قبل الجميع، الكبار كما الصغار. والجميع يطلبون رأيها، ومشورتها في كل القضايا التي يواجهونها.
سأل أحدهم رؤى: لماذا آخترت آسم نبراس؟
باسمة أجابته رؤى: آخترته لأنه يرمز الى النور...فالنبراس في اللغة هو المصباح المنير!
سألها مرة أخرى: وأنت؟ هل تريدين أن تكوني مثل نبراس؟
-نعم أريد أن أكون مثل نبراس…. فتونس في حاجة الى فتاة مثلها...فتاة ذكيّة تعمل على توحيد التونسسيين، وفضّ النزاعات بينهم لكي يصنعوا مستقبلا مشرقا لأنفسهم!
صمتت قليلا، ثم أضافت: بلادنا في حالة تثير بكائي كل يوم…. هي تتعذب وتشقى والسياسيّون الجدد لا يعبأون بها... كلّهم يريدون السلطة والكراسي….أما تونس فلا تعني لهم شيئا... ولست أدري لماذا كل الذين حكموها ويحكمونها لا يفعلون شيئا آخر غير نهب خيراتها، وسرقة ثرواتها.
حيارى تبادل أعضاء اللجنة النظرات. فرؤى السمراء الصغيرة التي ينساب شعرها الأسود على كتفيها في فوضى بديعة، مُدْركَة لحقائق التاريخ، وعارفة بأسراره. وصحيح ما تقول. فالفساد مُتأصّل في أغلب من حكموا تونس سواء قبل الإستقلال، أم بعده. ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، دأب البايات الحسينيّون، وجلّ وزرائهم، ووجهاء مملكتهم على نهب خيرات البلاد، وسرقة ثرواتها ليزداد الشعب فقرا وشقاء. وبسبب فساد مصطفى خزندرا، ومحمود بن عياد، ومصطفى بن اسماعيل، الذين كانوا يشغلون مناصب رفيعة في المملكة الحسينيّة، فقدت تونس مناعتها المالية والإقتصادية، وباتت على حافّة الإفلاس. وقد آستغلت فرنسا أوضاعها تلك لكي تجبر الصادق باي على إمضاء وثيقة الإحتلال في الثاني عشرمن شهر مايو-أيار 1881. وبعد الإستقلال، وحالما أعلن بورقيبة عن قيام النظام الجمهوري، زحف أنصاره من الحزب الديستوري على قصور الباي وعائلته لينهبوا كل ما فيها. بل أنهم عمدوا إلى الإستيلاء على حليّ ومجوهرات الأميرات ليصبحن في بضعة أيام فقيرات معدمات! ولم تخلو الحقبة التي حكم فيها بورقيبة البلاد من فساد، ورشوة، ومن نهب لخيراتها لفائدة أصحاب السلطة والنفوذ. وبسبب الفساد الذي تفشى في عهده بصورة مرعبة، سقط نظام بن علي في ظرف أسبوعين. وقد ظنّ التونسيون أن "ثورة الحرية والكرامة" سوف تضع حدّا لكلّ ما عرفوه من مصائب ومحن كان الفساد ضالعا فيها. إلاّ أنهم كانوا واهمين. فباسم التعويضات على سنوات السجن والمنفى، آستولت حركة النهضة على جزء هام من خزينة الدولة لصالح أنصارها لتظهر خلال الخمسة أعوام الماضية، طبقة جديدة تتمتع بفيلات فخمة، وبسيارات فارهة، وأخرى رباعية الدفع، وبآمتيازات أخرى كثيرة. حتى الذين يدعون أنهم "أبناء الشعب"، وعلى مدار الساعة، هم يتحدثون عن المساواة، وعن "الثورة المباركة" التي جاءت لتخدم مصالح الفقراء والمحرومين، لم يمنعوا أنفسهم من المشاركة في عمليات الفساد التي باتت بلا حسيب ولا رقيب. والوزراة التي آستحدثت لمقاومة الفساد، شلت أعمالها في بضعة أسابيع، ولم تعد قادرة على قطع أيدي الفاسدين الذين تكاثروا تكاثر الجراد في أوقات القحط والمجاعات. بل أن البعض من التقارير التي نشرتها الصحف، أشارت إلى أن بعض المسؤولين الكبار في الوزراة المذكورة، مُورّطون بدورهم في قضايا تتصل بالفساد والرشوة والمحسوبيّة! وقد صَوّت قسم كبير من التونسيين لصالح حزب الباجي قايد السبسي ظانين أن ذلك سيحدّ من مساعي النهضة للهيمنة على البلاد والعباد، إلاّ أنهم أصيبوا بخيبة كبيرة. فسرعان ما آنفجر حزب نداء تونس ليتحول الى ملل ونحل تتصارع في بينها بضراوة من أجل المصالح الخاصة. أما الرئيس السبسي فقد خيّر وضع يده في يد الغنوشي، زاعما أن الوفاق هو الطريقة المثلى لإنقاذ تونس من المخاطر التي تتهددها. والحقيقة أن هذا الوفاق لا وجود له إلاّ على ألسنة من يناصرونه، وإليه يدعون بحرارة وحماس. أما في الواقع فهو كلام على الكلام، وهذَر لا معنى له ولا مدلول. فزعيم حركة النهضة لا يزال متمسكا بمشروعه الظلامي، ولا يزال يعمل جاهدا لكي ينشر أنصاره في كل دواليب الدولة، بما في ذلك وزارات السيادة، لكي تصبح عملية الهيمنة على تونس، وتدمير مشروعها الحداثي والإصلاحي الذي ظهر مع خير الدين باشا التونسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أمرا واقعا، لا مفر لتونس والتونسيين منه!
وإذن رؤى الصغيرة على حق، ولا يمكن معارضتها في ما أفصحت عنه بجرأة وصدق.
والشكر الجزيل لها لأنها صدعت بالحقيقة في زمن الأوهام والأكاذيب والأباطيل!