: آخر تحديث

السؤال المقلق لأحزاب وستمنستر

3
3
3

في جلسة مساءلة رئيس الوزراء البرلمانية، الأربعاء، بدلاً من افتتاح كير ستارمر المواجهةَ بالاقتصاد، أو الخدمات العامة، أو مشكلات حكومته المتعثّرة في استطلاعات الرأي، اختار الهجوم على حزب «الإصلاح» وزعيمه نايجل فاراج، «الغائب عن الجلسة». المفارقة أن فاراج كان جالساً في شرفة الضيوف فوق رأس رئيس الوزراء يتبادل الابتسامات مع الصحافيين في منصتهم المجاورة. وتوالت أسئلة نواب «العمال» (المعدة مسبقاً) تهاجم «الإصلاح». بدا المشهد اعترافاً ضمنياً بوجود خصم يفرض نفسه، رغم تقليل الخطاب الرسمي له.

لحظة برلمانية، عابرة في ظاهرها، تحمل دلالة سياسية أعمق. فعندما يخصص رئيس حكومة منخفض الشعبية وقتاً ثميناً من جلسة 30 دقيقة لمهاجمة حزب صاعد (له 5 نواب مقابل 404 للعمال)، فذلك علامة قلق لا ثقة. والتجربة السياسية البريطانية تشير إلى نتيجة عكسية مألوفة: كلما بدا الوزراء متوجسين وهجوميين، ازداد فضول الناخبين تجاه «الإصلاح»، خصوصاً وأن كثيرهم يشعرون أصلاً بأن المؤسسة السياسية في وستمنستر تتجاهلهم.

سبّبَ الصعود السريع لـ«الإصلاح» ارتجاجاً في دهاليز السياسة البريطانية. السؤال الملح بازدياد: هل هذا الصعود بلغ ذروته بالفعل، أم بداية تمرّد أوسع من ناخبين فقدوا ثقتهم بالأحزاب التقليدية؟ مجرد طرح السؤال يكشف حجم التحول. قبل أكثر بقليل من عام، كان «الإصلاح» يُنظر إليه حركةَ احتجاج تملك أوراق اقتراع أكثر مما تملك فرصاً حقيقيةً للتأثير. لكن استطلاعات الرأي اليوم تثير انزعاج حزبي العمال، الحاكم، والمحافظين المعارض، فـ«الإصلاح»، وله نحو 270 ألف حامل بطاقة حزبية (350 ألفاً للعمال)، بدأ يجمع مقاعد في اختراق لافت للمجالس المحلية، آخرها أسكوتلندا، ما يطرح التساؤل عن تغيرات أعمق في الخريطة السياسية البريطانية.

الحديث عن «الذروة» أثارَتهُ سرعة هذا الصعود. فتاريخياً الأحزاب التي ترتفع بسرعة غالباً ما تصل إلى التسطّح بسرعةٍ بتلاشي حداثة الظاهرة واشتداد التدقيق. لكن قوة «الإصلاح» الحالية لا تبدو نابعة من تحمس الناخب لبرنامجه (المتناقض وغير الواضح) بقدر نفور الناخبين من الأحزاب القائمة. حزب العمال في السلطة يبدو حذراً إلى حد الشلل، إداريّاً أكثر منه سياسياً، فيما لا يزال حزب المحافظين يبحث عن هوية وسردية ما بعد الهزيمة الساحقة. «الإصلاح» وقوده مزاج عام ناقم أكثر وليس إعادة اصطفاف آيديولوجي متماسك، وهو فارق جوهري لتقييم مدى استمرار شعبيته.

هناك أيضاً طريقة إجراء استطلاعات الرأي نفسها، والمشاركون يختارون من قائمة أحزاب جاهزة. ويميل الناخب الغاضب إلى اختيار الأكثر إزعاجاً للمؤسسة، وليس بالضرورة دراسة برنامج الحزب، بل لأنه يُعبّر عن رفض شامل للطبقة السياسية. ونادراً ما تجد استطلاعات (بدون ذكر للأحزاب) تسأل الناس عن نوع السياسات التي يريدونها. ولو طُرحت هذه الأسئلة، لربما انكشف فارق كبير بين القناعة السياسية والاحتجاج العاطفي.

أيضاً «الإصلاح» لم يُختبر بعد سياسياً لفترة طويلة. وباستثناء مواجهات برلمانية مقتطفة أو مقابلات إعلامية قصيرة، لم يخض الحزب مناظرات علنية بين الزعماء مثل تلك التي صاحبت استفتاء «بريكست» أو انتخابات 2010. تلك المناظرات كشفت وقتها هشاشة بعض الشعارات وأجبرت القادة على مواجهة تناقضات برامجهم. وإلى أن يخضع «الإصلاح» لاختبارات ممثلة سيظل جزءٌ كبيرٌ من دعمه غير محسوب وبالتالي قابلاً للتبدل.

كما لا يمكن النظر لصعود «الإصلاح» بمعزل عن سياق أوسع. فالنمو المتوازي لحزب الخضر في أقصى اليسار يعكس إحباطاً ممثلاً في الاتجاه المخالف. فمعظم أنصاره غاضبون من تردد العمال في قضايا اشتراكية (استهداف الأثرياء بالضرائب والتأميم، والطاقة الخضراء). الاتجاهان يشيران إلى ناخبين يتجهون إلى الأطراف لأن الوسط السياسي المألوف غير قادر على مخاطبة حاجة الناس.

الاختبار ليس استطلاعات الرأي، بل صناديق الاقتراع. انتخابات المجالس المحلية في مايو (أيار) المقبل التي أُجّل بعضها وأُعيد رسم حدود الدوائر بشكل يثير اتهامات التأثير على النتيجة ستقدم مؤشراً أوضح على قدرة «الإصلاح» على تحويل الاحتجاج إلى تمثيل دائم. وقد تتسبب هذه الانتخابات في زعزعة المحافظين وحزب العمال، الذي تتصاعد داخله أصوات عدم الرضا عن زعامة ستارمر. التاريخ يُعلّمنا أن نتائج محلية سيئة تفتح جدلاً داخلياً تحاول القيادات تأجيله.

ويبقى السؤال: قد تبلغ شعبية «الإصلاح» ذروتها ثم تتراجع عندما يشتد الفحص، وقد يستمر صعوده إذا واصلت حكومة ستارمر الخلط بين الإدارة والسياسة، وبين الهجوم البرلماني والقدرة على الإقناع. المؤكد أن شعبية «الإصلاح» الحالية تكشف بقدر ما تكشفه عن الحزب نفسه، إخفاقات من يتولون السلطة اليوم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد