: آخر تحديث

توحيد الهوية البصرية الحكومية

2
3
3

لم تعد اليوم الهويات البصرية مجرد تفصيل شكلي أو رفاهية اتصالية، بل ركناً أساسياً لتواصل المنظمات وصورتها الموحدة، ويزداد أهمية في الجهات الحكومية، التي تستهدف رفع مستوى الثقة والأمان، والأهم تعزيز الهويّة الوطنية.

قبل عقود لم يكن هناك اهتمام بالهويات البصرية، فكانت أغلب الجهات الحكومية حول العالم بدون هويات أو شعارات، ومع الوقت ظهرت الشعارات، ثم تطورت إلى هويات بصرية، لكن ذلك قاد إلى ما يمكن وصفه بفوضى الهوية، كل وزارة تبرز شعارها، وكل هيئة تستخدم ألوانها، ثم تشعّب إلى أن كل مبادرة تصمم موادها الاتصالية بمعزل عن الأخرى، لتبدو الجهات الحكومية كجزرٍ منفصلة، يتحدث كلٌ منها بلغة بصرية مختلفة، مما أفقدها الانسجام البصري والرمزي، ناهيك عن الهدر المالي المتواصل.

ولهذا، جاءت فكرة توحيد الهوية البصرية الحكومية كخطوة اتصالية جوهرية، تتجاوز الجماليات الفرعيّة إلى بناء صورة ذهنية واحدة للدولة، تُعبّر عن وحدتها، كفاءتها، وثقتها بنفسها، وبرزت لذلك عدة نماذج لافتة.

أهم تلكم النماذج الناجحة ما فعلته الحكومة الأسترالية عام 2003، حينما أطلقت "سياسة هوية المؤسسات الحكومية الأسترالية"، لتوحيد الشكل البصري لكل مؤسساتها، أيضاً تبنت حكومة المملكة المتحدة عام 2012 "نظام الهوية البصرية الحكومي"، الذي وضع شعار التاج الملكي ولوناً محدداً لكل وزارة، لتُصبح الحكومة كيانًا بصريًا واحدًا منسجمًا.

في كلا المشروعين كانت الأهداف هي: ضمان الموثوقية، خفض التكاليف، وتوحيد تجربة المستفيد في التعرّف على الخدمات الحكومية والتعامل معها.

توحيد الهوية البصرية الحكومية لم يكن قراراً اتصالياً، بل خيار استراتيجي عكس الوعي بأهمية "العلامة الوطنية" في زمن التواصل الجماهيري، وهو تجسيدٌ لفكرة الدولة الواحدة التي تعمل بروح مؤسسية لا فردية، وأيضًا أداة للحكم الرشيد، لأن الصورة الموحدة تفرض انضباطاً تنظيمياً للتواصل، وتمنع التشتت والهدر.

إذ من الناحية الاتصالية، تؤدي الهوية الموحدة دورًا مشابهًا لما تؤديه "العلامة التجارية" في القطاع الخاص؛ فتخلق ذاكرة بصرية موحّدة لدى الجمهور، وتجعل كل تفاعلٍ مع جهاز حكومي امتدادًا لتجربة واحدة متماسكة، مهما اختلفت الجهات والقطاعات.

ولنعد إلى تجربتي بريطانيا وأستراليا، حينما كان المستفيد ينتقل بين واجهات متباينة، ألوان مختلفة، وتصميمات غير متجانسة، لكن بعد اعتماد نظام تصميم موحد، أمست التجربة الرقمية واحدة، والمستخدم يدرك فوراً أنه داخل منصة حكومية رسمية، إذ أصبحت الهوية البصرية بوابة الدخول إلى الثقة الرقمية، فكل لون وخط وزرّ صار جزءاً من اللغة التي تتحدث بها الحكومة مع المستفيدين من خدماتها.

ساهم توحيد الهوية البصرية في المملكة المتحدة في تحقيق وفورات مالية تُقدّر بملايين الجنيهات سنوياً، عبر إلغاء الحملات المنفصلة وتقليل كلفة التصميم والطباعة. أما في أستراليا، فأدى النظام الموحد إلى رفع جودة الاتساق بين الهيئات الحكومية وتسهيل التعاون فيما بينها، خصوصاً في الحملات المشتركة.

أيضاً لم تكن النتيجة شكلية فقط، بل تحسّن ملموس في ثقة المواطنين بالخدمات الرقمية وارتفاع معدلات رضا المستخدمين، فبحسب تقارير "الخدمة الرقمية الحكومية البريطانية"، ارتفع معدل الثقة في المواقع الحكومية الرسمية بنسبة تجاوزت 25% بعد إطلاق الهوية الموحدة!

واليوم نحن في المملكة وبعد توحيد الرؤية الوطنية برؤية 2030، نأمل أن تكون الخطوة التالية هي توحيد الهوية البصرية لكافة الجهات الحكومية، الأمر يعكس اتساق الهوية الوطنية وتكامل الأهداف ووحدة الخطاب الإعلامي، ويرفع من قيمة العلامة الوطنية للمملكة، وهي بالتأكيد أحد أهم عناصر القوة الناعمة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد