منذ ولادة الدولة العراقية الحديثة عام 1921، لم يكن الطريق نحو دولةٍ مستقرة ومؤسساتٍ راسخة واضحًا يومًا. توالت الأنظمة وتبدّلت النخب وصعدت قوى متنافسة بحثًا عن السلطة، بينما بقيت معاناة الناس ثابتة في الذاكرة الجمعية: نقصٌ في الأمن والخدمات والعدالة الاجتماعية، وبلدٌ واسع الثروات لم تُترجَم إمكاناته إلى واقعٍ معيشي يليق بأهله.
وفي السنوات الأخيرة، جاءت نتائج التعداد الوطني الذي أُجري في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024 — وهو الأول منذ عقود — لتكشف عن واقعٍ جديد؛ إذ بلغ عدد سكان العراق نحو 45.4 مليون نسمة وفق النتائج الأولية. رقمٌ بهذا الحجم لا يضيف فقط ضغطًا على البنى التحتية والوظائف والخدمات، بل يفرض إعادة التفكير في شكل الدولة نفسه وفي قدرتها على الاستجابة لحاجات مجتمع يتسع بوتيرةٍ أسرع من قدرة المؤسسات على الفعل.
تعقيد المشهد يتضاعف حين نضع هذا النمو السكاني إلى جانب الاعتماد شبه المطلق على النفط. فخلال العقدين الماضيين، شكّل النفط أكثر من 80 بالمئة إلى 90 بالمئة من إيرادات الدولة، بحسب تقارير قطاع الطاقة والحوكمة. هذا الاعتماد حول الاقتصاد إلى مرآةٍ عاكسة لأسعار النفط، وأخفى خلف لمعان المال تراجع القطاعات الإنتاجية والخدمية، وغياب سياسات تنويع اقتصادي حقيقية.
ولا يمكن فهم حاضر العراق دون قراءة التكاليف الهائلة لسلسلة الحروب التي عصفت به. فحرب الثمانينات وحدها خلّفت خسائر بشرية بمئات الآلاف، وأضرارًا اقتصادية امتدت آثارها لعقود لاحقة. ومع الحصار، ثم النزاعات الداخلية والتهجير، تراكمت ندوبٌ اجتماعية ومؤسساتية ما زالت آثارها مُشاهدة في ضعف البنى الإدارية وفي هشاشة العقد الاجتماعي.
هذه الصدمات المتراكمة أنتجت بنية اقتصادية تُعاني من اختلالات توزيعٍ واضحة وفسادٍ مؤسسي مُعترف به دوليًا. فتصنيفات منظمة الشفافية الدولية تُدرج العراق ضمن البلدان الأكثر فسادًا، ما يضعف الثقة العامة ويُربك قدرة الدولة على إيصال خدماتها الأساسية. وبالرغم من تدفق مليارات الدولارات سنويًا إلى خزينة الدولة، تتبدّد آثار هذه الثروة بفعل سوء الإدارة وضعف الحوكمة.
وتُظهر مؤشرات البنك الدولي والمنظمات الاقتصادية فجواتٍ عميقة: بطالة مرتفعة بين الشباب، تباطؤ نمو في سنوات عديدة، ونسبة كبيرة من السكان ما زالت تواجه مخاطر الفقر. هذه الأرقام ليست مجرد بيانات؛ إنها يوميات الناس: انقطاعات الكهرباء في عز الصيف، محطات وقودٍ مزدحمة، مؤسسات صحية لا تستوعب الطلب، ومدارس تتراجع بنيتها في بعض المناطق. كل هذه الشهادات تشكّل فصولًا من ذاكرة ضبابية يعيشها الناس يوميًا.
وبالرغم من الضباب، لا تغيب ملامح الوعي والمقاومة المدنية. فالحركات الاحتجاجية، ومبادرات المجتمع المدني، والتقارير الصحفية التي تكشف ملفات فساد، كلها مؤشرات على وعي اجتماعي يتشكّل بهدوء لكنه يترك أثرًا واضحًا. هذا الوعي — إن تلاقت مطالبه مع سياسات واقعية — قد يكون نقطة التحول التي طال انتظارها.
إن المال وحده لا يصنع دولة. العراق يحتاج مؤسساتٍ قوية، وقوانين تُطبَّق بعدالة، ونظامًا ضريبيًا فاعلًا، واستثمارًا حقيقيًا في التعليم والصحة باعتبارهما عماد العدالة الاجتماعية. البقاء في دائرة الريع والاعتماد على موردٍ واحد يعني بقاء المستقبل رهينة تقلّبات الأسواق والأزمات السياسية.
لذلك فإن ما نعيشه اليوم ليس وليد اللحظة؛ بل هو خلاصة عقود من خياراتٍ صعبة وتراكماتٍ ثقيلة: دول مركزية فشلت في استيعاب الجميع، حروب استنزفت ما تملك الدولة من قدرات، اعتمادٌ شبه مطلق على النفط، وفساد مؤسسي حرم الناس من ثرواتهم. ومع ذلك، تبقى ذاكرة العراقيين حية؛ ذاكرة تحفظ الألم لكنها تحفظ أيضًا قدرة الناس على الصبر والإبداع والمقاومة، في تفاصيل الحياة اليومية — من السوق إلى المستشفى إلى المشهد السياسي المعقّد.
ولكي يخرج العراق من الضباب، لا تكفي الوعود. المطلوب خطة شجاعة: اقتصاد متنوع، إصلاح مالي وجمركي فاعل، سياسات تشغيل واقعية للشباب، استثمار جاد في الكهرباء والماء والصحة، وقضاء مستقل قادر على مواجهة المتنفذين. خطواتٌ ليست مستحيلة، لكنها تحتاج إرادة سياسية صادقة، وضغطًا شعبيًا منظمًا، ومساءلة داخلية وخارجية توقف نزيف المال العام.
وقبل الختام الأمل ليس مجرد كلمة. العراقيون يعرفون الضباب جيدًا — ضباب الأمس وضباب اليوم — لكنهم أيضًا يعرفون كيف يبحثون عن الضوء. ذاكرة الضباب لم تُنهكهم؛ بل علّمتهم أن يلتقطوا ذلك الخيط الرفيع من النور الذي يشقّ سحب الواقع، ويمضوا به نحو غدٍ يستحقونه.


