هناك فرق ساخر عميق بين «مزبلة التاريخ» و«مزبلة من تجاوزهم التاريخ» ، فرق لا ينتبه له إلا من يفهم كيف يعمل الزمن.. و كيف يختار ما يبقيه.. و ما يتجاهله بلا أسف.
«مزبلة التاريخ» مكان له هيبة غريبة رغم قذارتها.. هي اعتراف متأخر بأن ما وضع فيها كان يوما ما جزءاً من المشهد .. فكرةً .. شخصاً .. نظاماً .. خطاباً .. أخطأً .. انحرفاً .. أو انتهى دوره، لكنه كان موجوداً بما يكفي ليدون سقوطه.. ويشار إليه باعتباره مرحلةً مضت.. وحتى الفشل هنا له قيمة توثيقيةً.
أما «مزبلة من تجاوزهم التاريخ».. فهي شيء آخر تماماً.. أقل شرفاً.. وأكثر سخريةً..
هي ليست نهاية مسار.. بل عدم الاعتراف بوجود مسار أصلا.
هي المكان الذي لا يصل إليه الساقطون الكبار.. بل العالقون.. الذين لم يسقطوا سقوطا يستحق أن يذكر.. و لم ينجحوا نجاحاً بستحق أن يُروى.. فبقوا بينَ بينْ.. خارج السرد.. خارج الاهتمام.. خارج الحساب.
من يدخلون «مزبلة التاريخ» يقال عنهم:
كانوا هنا ثم أخطأوا.. أما من يرمون في «مزبلة من تجاوزهم التاريخ» فيقال عنهم:
من هم؟ ومتى كانوا أصلا؟.
و هنا تكمن السخرية..
فالتاريخ قد يكون قاسياً.. لكنه عادلاً بطريقته، هو لا يعاقب بالصراخ.. بل بالإهمال، ولا ينتقم.. بل يتقدم دون أن يلتفت.
الأصوات التي تصل إلى «مزبلة التاريخ» غالباً ما كانت مؤثرةً.. حتى في خطئها، أما الأصوات التي تجاوزها المسار التاريخي.. فهي أصوات استهلكت قبل أن تُختبر ..
لم تنتج فكرةً ..
لم تغير مساراً ..
لم تزعج سلطةً ..
و لم تقنع وعياً ..
فكل ما فعلته هو الضجيج.. والضجيج لا يؤرخ.
التاريخ لا يحتقر أحداً ..
لكنه أيضا لا يجامل ..
وأخطر ما يمكن أن يصيب إنساناً أو خطاباً ليس العداء.. بل اللامبالاة التاريخيةً..
أن تستمر في الكلام.. و الزمن لا يسمعك..
أن تكرر نفس الأدوات.. و الواقع تجاوزها..
أن تظن نفسك في المعركة.. بينما المعركة انتقلت إلى مكان آخر.
لذلك.. «مزبلة من تجاوزهم التاريخ» ليست شتيمةً.. هي تشخيص باردٌ..
تشخيص يقول:
هذا الخطاب لم يُهزم ..
و لم يُدن ..
و لم يُحاسب ..
لأنه ببساطة لم يكن مُهماً بما يكفي.
و بين المزبلتين.. يظهر الفرق بوضوح ساخرٍ:
مزبلة التاريخ تحفظ الأخطاء الكبيرة ..
ومزبلة من تجاوزهم التاريخ تبتلع التفاهة بصمت.
وفي النهاية ..
التاريخ لا يكتب كل شيء ..
وهذه ليست مشكلة في التاريخ ..
بل حكم نهائيٌ على ما لا يستحق أن يكتب.

