حينما كان الرئيس الراحل عبد السلام عارف يُنعى في أرجاء العراق منتصف ستينيات القرن الماضي، أُقيمت في بلدتي النائية عن بغداد مجالسُ عزاءٍ رسمية، شارك فيها الوجهاء ورجال الدين ورؤساء العشائر، في مشهدٍ يغلب عليه طابع المجاملة والنفاق أكثر من الحزن الحقيقي، كان الناس يبكون "الرئيس المؤمن"، بينما كانت السلطة تستعدّ لتوريث "إيمانها" إلى رئيسٍ مؤمنٍ جديد!
كنّا صغارًا نراقب تلك المسرحية بفضولٍ طفولي؛ لا نفهم لماذا يُبكى حاكمٌ كان حتى الأمس رمزًا للخوف والطاعة، لكننا، بعد أن كبرنا قليلًا، اكتشفنا أنّ الممثلين أنفسهم ما زالوا على المسرح؛ يغيّرون فقط أسماء الأبطال وأزيائهم، فبعد سنواتٍ قليلة جاء رئيسٌ آخر، أكثر غرابةً واستبدادًا، لكن الوجوه ذاتها عادت تصفّق له، وتُقسم بحياته، وكأنّ التاريخ يعيد إنتاج نفسه بالإيقاع نفسه وبالراقصين أنفسهم. لم يكن المشهد عراقيًا خالصًا، بل ظاهرةً عربيةً تكاد تتكرّر بالحرف: أنظمةٌ تصنع طغاتها، ومجتمعاتٌ تتكيّف مع الخوف حتى الإدمان؛ تُسبّح بحمد الحاكم حين يعطي، وتبكيه حين يبطش، ووجوهٌ تتقن الرقص على كل الحبال؛ بين السلطة والمعارضة، بين الدين والسياسة، بين الولاء والبراغماتية.
رأيتُ هؤلاء اليوم بملامحَ جديدةٍ وألقابٍ محدثة، لكن بذات البراعة في التلوّن، أحفاد أولئك الوجهاء والأئمة ورؤساء العشائر ما زالوا يتقنون اللعبة في سوق المزايدات؛ يشاركون في كل مناسبة، ويتسابقون إلى موائد كلِّ منتصر. إنّها "مهنة" تُورَّث كأي حِرفةٍ أخرى؛ تتطلّب ذاكرةً قصيرة، وضميرًا مطّاطًا، وقدرةً على الانحناء من دون أن ينكسر الرأس!
نعيش في مجتمعاتٍ صاغتها قرونٌ من الخوف والتبعية والولاء الشخصي، حتى صار "الزعيم" كائنًا شبه مقدّس، والخروج عن طاعته نوعًا من الكفر بالنعمة، وكل ذلك تحت عنوانٍ براق اسمه "الخبزة"، تلك المفردة التي اختزلت فلسفة العيش والسياسة معًا.
أتذكّر والدًا كان أبناؤه الثلاثة من قيادات أحزابٍ متناقضة: أحدهم في الحزب الشيوعي، والثاني في حزب البعث، والثالث في حزبٍ دينيٍ سري، وحين سُئل عن هذا التناقض، أجاب ببساطةٍ مدهشة:
"لنا في كلِّ واحدٍ منهم خبزة!"
هكذا رُبطت "الخبزة" بالزعيم، وبحزبه أو جماعته أو ميليشياته، فتحوّلت هي الأخرى إلى إيقاعٍ أبديٍّ للرقصات السياسية والاجتماعية؛ يتغيّر فيه اللحن ولا يتبدّل الراقصون، فكلُّ عهدٍ جديد لا يبدأ من الصفر، بل من ذات الطبول القديمة التي تُدقّ لتُعلن ولادة طاغٍ آخر، واحتفالًا آخر، وعزاءً آخر.
إلى متى سنبقى الشعبَ الذي يحضر كلَّ الحفلات، ويبكي في كلِّ العزاءات، ويرفع في كلِّ مرّةٍ شعارًا جديدًا للخبزة ذاتها؟
شعبٌ واحد… لكلِّ نظامٍ هتاف!
كان ظنُّنا في غير محلّه يوم مارسنا فرحًا غريزيًا بسقوط طاغٍ على يد جنديٍّ أميركي؛ حسبنا أن المسرح سيتغيّر أخيرًا، وأنّ الوجوه ستتغيّر معه، لكن الأيام تسارعت، فإذا بالمشهد يعيد نفسه؛ لا اختلاف إلا في الأقنعة لا في العقول، وفي الشعارات لا في الذهنيات، هكذا وُلِدت مجموعةٌ أخرى من الطغاة، مُصنَّعين هذه المرّة في شرقٍ محترفٍ تاريخيًّا في صناعة الجبابرة… الجبناء!


