: آخر تحديث

«نوبل للطب» تقبض على «حراس المناعة»

3
4
3

إن كل تقدم في مجال البحوث الطبية يكون قادراً على تحقيق إنجاز يفيد الإنسانية في مقاومتها للأمراض القاهرة المستعصية، ويعد تقدماً مفرحاً لملايين البشر وجالباً للسعادة الحقيقية، حيث إنه فعلاً وليس مبالغة أو مجازاً القول بشكل متواتر بأنه لا شيء يضاهي الصحة وعافيتها، ومن دون ذلك فإن كل شيء مُرّ المذاق وعديم القيمة، مهما ثقل وزنه.

لذلك فإن الاكتشافات ذات الصلة بالصحة تظل على رأس قائمة الاكتشافات والاختراعات والابتكارات الممكنة، ويكفي أنها تندرج بكل جدارة في ما ينفع النّاس.

في هذا السياق من الفهم، نضع الفوز المستحَق للعلماء الذين فازوا، هذا الأسبوع، بجائزة نوبل للطب لهذا العام، وهم الأميركيان فريد رامسديل وماري إي. يرونكو، والعالِم الياباني شيمون ساكاغوتشي، حيث تمكنوا، من خلال بحوثهم وفق ما وصفته لجنة نوبل للطب، من إرساء «أسس مجال بحثي جديد وحفزت التوصل إلى أدوية جديدة لأمراض المناعة الذاتية». ذلك أن هؤلاء العلماء حققوا ثورة كبيرة ستوصل الإنسانية بفضلهم في المدى القريب إلى قهر أمراض المناعة الذاتية التي يعاني منها الملايين، وبنسبة قد تصل إلى 10 في المائة من إجمالي سكان العالم، وربما أكثر.

أين يكمن إنجاز هؤلاء العلماء الفائزين؟

كي نفهم الثورة التي تحققت في مجال معالجة أمراض المناعة الذاتية، من خلال الأبحاث الفائزة بأهم جائزة في مجال الطب عالمياً، من المهم أن نفهم طبيعة أمراض المناعة الذاتية التي تنتج عن فرط نشاط جهاز المناعة، الذي يهاجم الخلايا والأنسجة السليمة عن طريق الخطأ.

هذا ما يحصل لمرضى البهاق والثعلبة والصدفية وغيرها من الأمراض الأقل شيوعاً، حيث إن هناك أكثر من مائة مرض ذاتي المناعة. والمشكلة الكبرى أن هذه الأمراض التي أرهقت الأطباء والمرضى، من بداية الحضارة الإنسانية إلى اليوم، تظهر فجأة، ولا أدوية خاصة بها قادرة على إيقافها.

إن البهاق والثعلبة والصدفية وغيرها من أمراض المناعة الذاتية تمثل مظاهر عجز الطب، وكل الوصفات التي تُقدَّم هي اجتهادات، وبعض خطوات تحققت، ولكنها غير مضمونة النتائج، وفي أفضل الحالات نسبية في معدلات النجاح والشفاء.

مثالاً على ذلك، لم يتم اكتشاف دواء وافقت عليه إدارة الغذاء والدواء الأميركية خاص بالبهاق إلا منذ سنتين خَلَتا في الولايات المتحدة، وهو مرتفع الثمن وليس في متناول جميع المرضى، علماً بأن نسبة التعافي في حال تجاوب جسم المريض تصل إلى 70 في المائة. ولقد نجح المصريون في إنتاج نسخة مصرية من الدواء الأميركي المشار إليه، مصممة لاستعادة الصباغ في البشرة، حيث تم إصدار تسجيل للنموذج المحلي في مصر، في أغسطس (آب) 2023، بعد اعتماده من الهيئات الدولية.

الجديد الثوري في مجال معالجة أمراض المناعة الذاتية يتمثل في أن الفائزين بجائزة نوبل للطب الثلاثة لهذا العام قد حلّوا عقدة المرض الرئيسية واللغزَ الذي حيّر الأطباء وجعلهم عاجزين عن تقديم العلاج الشافي لمرضاهم. لقد اكتشفوا «الخلايا الحارسة للجهاز المناعي أي الخلايا التائية التنظيمية أو الكابحة التي تمنع الخلايا المناعية من مهاجمة أجسامنا».

ماذا يعني هذا: إنه يعني أننا مسكنا طرف الخيط المهم في قهر البهاق والثعلبة والصدفية وغيرها. وباعتبار أن هذه الأمراض تحدث بسبب هجوم جهاز المناعة عن طريق الخطأ على الخلايا والأنسجة السليمة فيدمر البصيلات السليمة وتحصل الثعلبة، أو يتم الهجوم على التصبغ في الجلد فيظهر البهاق. وتبعاً للتاريخ القاسي المعقد الغامض من هذه الأمراض القاهرة، فإنه، وفق البحوث الفائزة بجائزة نوبل، سيصبح متاحاً تحديد الخلايا الحارسة للجهاز المناعي القادرة على منع عملية الهجوم على الخلايا والأنسجة السليمة.

إن هذه البحوث تُعد حقاً ثورة وتستحق كل دعم شركات الأدوية ومراكز البحث كي تكتمل؛ لأنه حتى الآن، وحسب بيان لجنة نوبل للطب، تكمن أهمية البحوث الفائزة في وضع الأسس لمجال بحثي جديد يحفز التوصل إلى أدوية؛ لأن هذه الأمراض تفتقر إلى أدوية فعالة وخاصة بها، ودليلنا على ذلك أن أول دواء لمرض البهاق اكتُشف منذ سنتين فقط، والحال أن ملايين البشر يعانون منه منذ قرون طويلة.

وكي ندرك أكثرَ أهميةَ هذه البحوث والعلاجات التي يمكن أن تتطور وتستفيد منها الإنسانية على المدى القريب، بعد فشل ذريع وطويل في هزيمة أمراض المناعة الذاتية، يكفي أن نعرف أن أحدث الأرقام العالمية تقول إن نحو 160 مليون شخص في العالم يعانون من داء الثعلبة؛ أيْ 2 في المائة من إجمالي سكان العالم. كما أن نحو 95 مليون شخص قد أصابهم البهاق، ناهيك بأن الذين تزعج حياتهم اليومية الصدفية يتجاوز عددهم الـ125 مليون شخص.

وكما نرى، فالأعداد المصابة بأمراض المناعة الذاتية بالملايين، وتكشف الأرقام والدراسات عن تزايدها باعتبار أن القلق والضغوطات تزيد من أسباب ظهور أمراض المناعة الذاتية وتحدد شدتها.

من أجل هذا وغيره نقول: «ألف مبروك» للبشرية على هذه البحوث، أخيراً أصبح هناك أمل حقيقي في أن يشفى المصاب بمرض مناعي ذاتي، وألّا يلازمه المرض حتى الممات ويمنع عنه الحياة العادية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد