حصة مروان السديري
إذا نظرنا إلى جدة التاريخية في ملامح عمارتها الجميلة، المبنية من الحجر المنقبي والروشان، وجدناها شاهدة على حكاية مدينة ساحلية عريقة.
ومن أسرارها تلك الشبابيك الخشبية المزخرفة المعروفة بالروشان، والتي أطلق عليها الحرفيون قديمًا اسم (العاشق بمعشوقته)؛ إذ بُنيت من قطع خشبية تتشابك في زخارف هندسية دقيقة كل قطعة تحتضن الأخرى، في علاقة معمارية تُشبه علاقة العاشق بمعشوقه. وهكذا أصبح الروشان ليس مجرد نافذة، بل رمزًا للجمال والهوية، يعانق المنازل من الخارج ويمنح ساكنيه الهواء والضوء والظل والخصوصية. تغزّل بجدة الرحالة والمستشرقون عبر العصور، حتى أُطلق عليها في زمننا الحديث ألقاب عديدة مثل (عروس البحر الأحمر) و(جدة غير).
وقد ذكر الرحالة السويسري جون لويس بوركهارت عند زيارته لجدة في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي أن مبانيها (أحسن طرازًا من مباني تركيا)، وأنها (عالية وصحية جدًا). وأضاف أنها مكلفة لما فيها من الزخارف المزينة بالألوان الجميلة، شهادة مبكرة تعكس عراقة المدينة وثراء فن عمارتها.
لكن ما يميز جدة أيضًا هو ذلك الميلان الطفيف الذي يظهر في بعض مبانيها ومآذنها، ميلان قد يراه الزائر لأول مرة عيبًا في البناء، لكنه في الحقيقة جزء من خصوصية المكان وسحره، هذا المشهد وثّقه الأديب المصري إبراهيم عبدالقادر المازني خلال رحلته إلى جدة سنة 1930م، يروي في كتابه (رحلة الحجاز) أنه كان في مبنى وزارة الخارجية ينظر من النافذة إلى مأذنة مسجد مجاور، فبدت له المأذنة شديدة الانحراف حتى خشي أن تسقط، خرج مسرعًا ليتفحصها بعينه، فلم يجد بها أي ميل، لكنه حين عاد إلى داخل الغرفة، رآها مرة أخرى وكأنها مائلة بشدة!
هنا كتب المازني واصفًا ما اكتشفه: (أن جدران الغرف غير متساوية الارتفاع، فأرض المنازل مائلة، فإذا جلسنا فيها بدت لنا الأشياء منحرفة).
من هذا الموقف خرج المازني بصورة أدبية بديعة، شبّه فيها مباني جدة ببرج بيزا المائل في إيطاليا. لكنه رأى أن جدة تمتلك خصوصيتها، إذ لم يقصد بنّاؤوها إحداث هذا الانحراف، بل هو انعكاس طبيعي لطبيعة أرضها ومنازلها الساحلية. واليوم، وبعد مرور قرن تقريبًا على وصف المازني، وما يقارب قرنين على شهادة بوركهارت، ما زالت جدة التاريخية تحتفظ بذات السحر المنازل المزخرفة بالروشان العاشق والمعشوق، مآذن شامخة، وأزقة تنبض بالحياة.
ميلانها لم يكن عيبًا، بل سرًا من أسرار جمالها. وهكذا ولدت صورة “بيزا السعودية”، حيث يلتقي التاريخ مع الأدب والعمارة في حكاية مدينة لا مثيل لها.