محمد ناصر العطوان
تخيل معي عزيزي القارئ، في زمن التيك توك والريلز والبوستات التي تعيش 48 ساعة فقط، هناك كائن صحافي غريب يعيش منذ 400 سنة ومازال ينبض بالحياة!
ما هو سر هذا الكائن الصحافي المُقاوم والذي يسمى «المقال الصحافي»؟ في البداية دعونا نتفق أن المقال الصحافي ليس مجرد كلام منمق ومرتب ولكنه روح المجتمع. ولذلك فالسؤال الذي اعتقد أنه قد يهم رئيس التحرير، ومسؤول صفحة المقالات، والدسك مان، هو لماذا لم يمت المقال الصحافي رغم كل صناعة المحتوى المحيطة به؟
دعونا نتعرف على أسرار خلود المقال الصحافي في جريدة «الراي» الغراء التي يحبها جميع القراء.
المقال ليس صناعة محتوى بل «علاقة حب» مثل طبخة جميلة أو زوجة وفية، فالتغريدة تعيش يوم واحد، والتيك توك 15 ثانية، لكن المقال يفتح مع القارئ علاقة طويلة الأمد، مثلما قال المفكر الأميركي جاريد لانيير «المقال هو المحادثة الذكية الوحيدة الباقية في عالم الصراخ الرقمي».
المقال أيها القارئ الكريم، يا من تكره العنصري اللئيم، هو المكان الوحيد الذي تستطيع أن تقرأ فيه تحليلاً عميقاً وليس مجرد بيانات سريعة، فحسب معهد «رويترز» للأخبار الرقمية، فإن 68 في المئة من القراء يفضلون المقالات الطويلة للمواضيع المهمة.
كما أنه علاج من التسطيح والبقاء على سطح اللغة، فالسوشيال ميديا تجعلك تفكر بـ 280 حرفاً فقط، بينما المقال يعلمك التفكير النقدي المنظم.
أما السؤال الذي قد يهم علماء الاجتماع فهو، كيف أصبح المقال مرآة المجتمع وترندات الشعوب على الورق؟
في مصر مثلاً، نجد مقالات أحمد بهجت عن «الحرافيش» تصف واقع اجتماعي من 40 سنة... ومازال صحيحاً. وبلال فضل، وتوثيق التحولات الطبقية في زمن السوشيال ميديا.
في السعودية، هناك مقالات عبدالله المغلوث التي عكست تغير نظرة الشباب للعمل والزواج.
وفي الكويت، هناك مقالات أحمد الربعي ومحمد مساعد الصالح وحسن العيسى وفهد البسام ودلع المفتي وإقبال الأحمد وغيرهم، مما لا يسع المقال لذكرهم، والذين عبروا عن واقع المجتمع وواقعه.
وحسب استبيان اتحاد الصحافيين العرب فإن 75 في المئة من القراء يشعرون بأن المقالات تعبر عن همومهم أكثر من التلفزيون.
أما السؤال الذي قد يهم مسؤول صفحة الأخبار السياسية فهو، لماذا المقال أهم من الخبر؟ والإجابة ببساطة هي ذاتها الإجابة عن الفرق بين الأكل الجاهز والطبخة البيتي!
الخبر السريع يخبرك ماذا حدث، أما المقال يخبرك لماذا حدث وكيف. الخبر مثل وجبة سريعة، أما المقال فهو عشاء عائلي يملأ المعدة يغذي العقل والروح.
عزيزي القارئ، هناك أدلة كثيرة تشير إلى استمرارية المقال لـ 400 عام مقبلة، فمثلاً هناك صحف عريقة مازالت مستمرة مثل «النهار» اللبنانية التي تأسست عم 1933 وحتى اليوم. وكذلك «الأهرام» المصرية التي تتحول بعض مقالات الرأي فيها الى ترند أسبوعي. وهناك المنصات الرقمية مثل مدونات «الجزيرة» ومقالات رأي تصل لملايين القراء. واستبيانات كثيرة أثبتت أن جيل الشباب مازال يقرأ مقالات عميقة.
والسؤال الآن الذي قد يهم أصدقائي الكُتاب هو، لماذا يحتاج المجتمع للمقال وما هي وظيفته الحيوية؟
إنه «الذاكرة الجمعية»، فالمقالات تتحول إلى أرشيف لتطور الكاتب والمجتمع ويوميات للأمة، ومنصة للحوار المجتمعي، وتساعد السلطة من خلال التفكير الناقد على تغيير أو تطوير سياسات وكشف فساد.
ورغم التحديات التي يواجها فن المقال في العصر الرقمي، مثل انخفاض مدى الانتباه ومنافسة المحتوى المرئي وضغط الإعلانات، إلا أن هناك حلولاً يمكن للصحافة المحلية أن تتبناها ويكون لها قدم السبق فيها، مثل المقالات التفاعلية ودمج الوسائط المتعددة، فالمستقبل للمقال، لكن بشكل جديد! فهو لن يموت ولكن سوف يتطور من الورق للشاشة ومن النص للوسائط المتعددة ومن الأحادية للتفاعلية.
وتبقى الحكاية الأخيرة، في زمن الضجيج الرقمي، وهي أن المقال هو واحة العقل... المساحة الوحيدة التي تستطيع أن تجلس فيها مع نفسك وقهوتك وتفكر كإنسان وليس كـ«مستخدم». وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل.
قصة قصيرة
كان يقلّب شريط الأخبار بملل، ضجيج العالم كله يتكرر في شاشة صغيرة، ثم توقف عند صورة طفل يبتسم وسط الركام، ابتسامة غير منطقية في سياق الموت. لم تكن الصورة هي ما هزّه، بل السؤال الذي أشعلته: كيف يزهر المستحيل؟ هكذا يُولد المقال... جمرة صغيرة تكفي لإشعال بصيرة.