لم تكن تلك الطفلة، التي وقفت في ساحة مدرستها لتتحدث عن وطنها ولغتها وجبالها، تعرف أنها لا تؤدي حواراً بريئاً فحسب، بل تستحضر تاريخاً كاملاً من الجراح المؤجلة. كانت كلماتها بسيطة، وصوتها طفولياً، لكنها تحدثت عن أشجار الجوز والبلوط، وعن حقوق شعب كوردستان، وعن شهداء كوردستان، فكان الصدى الذي أحدثته يتجاوز أسوار المدرسة ليصطدم بجدار سميك من الكراهية في الفضاء العام، حيث تحولت براءتها إلى مادة للتهجّم والإنكار، لا لأنها قالت شيئاً سياسياً، بل لأنها عبّرت عن هوية لم يتصالح معها العراق بعد.
ذلك المشهد الصغير لم يكن استثناءً، بل انعكاساً مكثفاً لأزمة أعمق، أزمة دولة لم تحسم علاقتها بتعددها، ولم تنجح في تحويل التنوع من مصدر قلق سياسي إلى قيمة وطنية جامعة. فحين يُستقبل حديث طفلة عن كوردستان بكل هذا الغضب، يصبح السؤال مشروعاً: لماذا يُنظر إلى أي تعبير كوردي، حتى في أكثر أشكاله إنسانية وبراءة، بوصفه تهديداً؟
للإجابة، لا بد من العودة إلى ذاكرة لم تُغلق، بل جرى القفز فوقها دون معالجة. في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، لم يكن الكورد طرفاً في خلاف سياسي عابر، بل هدفاً مباشراً لمشروع إقصائي قرر أن يحسم وجودهم بالقوة. حملات الأنفال، بما رافقها من تدمير ممنهج وتهجير وقتل جماعي، ثم مجزرة حلبجة بالسلاح الكيميائي، لم تكن مجرد جرائم نظام سقط لاحقاً، بل لحظة تأسيس لشرخ عميق بين الكوردي والدولة المركزية. منذ تلك اللحظة، لم يعد الحديث عن المواطنة المتساوية مفهوماً نظرياً، بل وعداً مؤجلاً محاطاً بالريبة وانعدام الثقة.
وحين سقط النظام عام 2003، دخل الكورد العملية السياسية لا بوصفهم منتصرين، بل شركاء اختاروا، بوعي ثقيل الذاكرة، الرهان على دولة جديدة. قبل ذلك، كانت كوردستان ملاذاً للمعارضة العراقية، وحصناً سياسياً لمن ضاقت بهم الجغرافيا والقمع. وبعد السقوط، شارك الكورد في كتابة الدستور، ودافعوا عن الفيدرالية، وصوّتوا على وثيقة كان يُفترض أن تؤسس لعراق يقوم على الشراكة لا على الغلبة، وعلى الاعتراف لا على الإنكار. كان ذلك قراراً عقلانياً، وربما أخلاقياً، يقوم على الإيمان بأن الدولة الجديدة ستتعلم من أخطاء سابقتها.
لكن ما تلا ذلك كشف أن النصوص الدستورية لم تتحول إلى ثقافة حكم، وأن الشراكة بقيت حبراً على ورق. ففي عام 2014، ومع تصاعد الخلافات السياسية، جرى التعامل مع إقليم كوردستان بوصفه طرفاً يمكن معاقبته مالياً، فقُطعت ميزانيته في لحظة كان فيها العراق كله يواجه خطر الانهيار. لم يكن ذلك خلافاً تقنياً أو سوء إدارة، بل رسالة سياسية صريحة مفادها أن الشراكة قابلة للتعليق، وأن الحقوق يمكن إخضاعها لمعادلات القوة، وأن الفيدرالية تُفهم عند الحاجة وتُنسى عند الخلاف.
وفي سياق أعمق، أهملت الحكومة الاتحادية تطبيق بنود الدستور الأساسية، ومنها المادة 140 الخاصة بتسوية الوضع النهائي للمناطق المتنازع عليها، وقوانين مهمة تخص إدارة الموارد الطبيعية مثل قانون النفط والغاز، فضلاً عن مواد أخرى تضمن للكورد حقوقهم الإدارية والثقافية والسياسية. هذا الإهمال لم يكن مجرد تقصير إداري، بل كشف عن فشل الدولة في ترجمة النصوص الدستورية إلى واقع ملموس، وتعميق شعور الكورد بأن الدولة الاتحادية تُدار بعقلية مركزية قديمة، وإن تبدلت الوجوه والشعارات.
وعندما جاء استفتاء عام 2017، لم يكن خروجاً مفاجئاً عن هذا المسار، بل نتيجة منطقية لتراكم طويل من الإخفاقات. لم يكن تعبيراً عن نزعة عاطفية أو مغامرة سياسية، بل عن انسداد حقيقي في أفق الشراكة، وعن شعور متزايد بأن المشاركة لم تُنتج مساواة، وأن الاعتراف ظل ناقصاً ومشروطاً. ومع ذلك، لم يُقابل الاستفتاء بنقاش جاد حول جذوره وأسبابه، بل بعقوبات وإجراءات أعادت إنتاج منطق العقاب الجماعي، وكأن المشكلة ليست في السياسات، بل في تطلعات من تضرروا منها.
في هذا السياق، تبدو ردود الفعل الغاضبة على الطفلة امتداداً طبيعياً لفشل أعمق. فخطاب الكراهية لا يولد من فراغ، بل ينمو في ظل دولة لم تحسم سرديتها الوطنية، ولم تعترف بتعدد رواياتها، ولم تجرؤ على مواجهة تاريخها بصدق. حين تفشل السياسة في إدارة التنوع بعدالة، ينتقل الصراع إلى المجتمع، ويتحول الخلاف من نقاش دستوري إلى عداء ثقافي، ومن اختلاف سياسي إلى إنكار للوجود نفسه.
المفارقة أن إقليم كوردستان، بالرغم من كل ما مر به من حروب وحصار وخلافات، قدّم نموذجاً مختلفاً نسبياً في الاستقرار، وفي التعايش بين مكوناته، وفي الحفاظ على نسيج اجتماعي لم يتمزق كما تمزق في مناطق أخرى من العراق. لم يكن ذلك ادعاءً بالكمال، بل محاولة مستمرة لبناء مساحة آمنة في محيط مضطرب، وإثبات أن الاعتراف بالهوية لا يعني نفي الآخر، وأن التعدد يمكن أن يكون مصدر قوة لا تهديد.
من هنا، فإن السؤال عن نهاية خطاب العنصرية في العراق لا ينفصل عن سؤال الدولة نفسها. ينتهي هذا الخطاب حين تعترف الدولة، لا الأفراد فقط، بأن الكورد ليسوا ضيوفاً ولا ملفاً مؤجلاً ولا ورقة ضغط، بل شريكاً أصيلاً له ذاكرته وحقوقه وروايته في هذا الوطن. وحين تُفهم كلمات طفلة لا بوصفها تهديداً سياسياً، بل بوصفها اختباراً صريحاً لمدى نضج الدولة في قبول ذاتها المتعددة. وحتى ذلك الحين، ستظل البراءة تُواجَه بالغضب، لأن المشكلة لم تكن يوماً في الصوت، بل في ما يوقظه من أسئلة لم يُرَد لها أن تُطرح.


