عندما تكون هنالك لقاءات دورية ومفاوضات مستمرة بين أطراف سياسية أو عسكرية معيّنة بهدف الوصول إلى الحل والاتفاق على بنود تخصّ الطرفين حيال القضية الشائكة، عادةً ما يتم العمل على تسوية الأرضية وتمهيدها وترطيب الأجواء بعطور التفاؤل وتهيئة المناخ العام لذلك الحدث المرتقب، باعتبار أن المناخ الحربي أو التخويني أو الاتهامي الكريه يعمل على النفور والتباعد وليس التقارب والوفاق، لذا فطالما أن المفاوضات جارية بين سلطة دمشق وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، فلماذا إذن يتم إعطاء المجال لمن يعكّرون صفو الأجواء، ومن يبثّون السموم في القنوات التلفزيونية، ومن يشحنون أفئدة الناس بالحقد والكراهية في التحشّدات الجماهيرية بالميادين وفي فضاءات وسائل التواصل الاجتماعي؟
كما أنه في الوقت الذي أعلن فيه القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي التوصّل إلى تفاهمٍ مشترك بشأن دمج القوى العسكرية بما ينسجم مع المصلحة العامة للبلد، والذي لفت إلى وجود تقارب في وجهات النظر بشأن القضايا الأساسية، معرباً في الوقت ذاته عن الأمل في استكمال الاتفاقات خلال الفترة المقبلة؛ بالمقابل نقرأ أو نسمع في أغلب الوسائل الإعلامية التابعة والمقرّبة من السلطة الحالية وهي تنفي الاتفاق الوشيك بين الحكومة السورية وقسد، بل وتشير إلى أن الاتصالات مع قسد متوقّفة حالياً مع احتمال عقد لقاءات مرتقبة قريباً. وبخصوص هذا التناقض فيما يعلنونه، فهل نحن أمام تلاقي ووئام شبه سري مستتر لن يدوم كتمان الود بينهما مهما أنكر الواقعة جمهور طرفي العلاقة؟ أم أن المغزى من تصريحات المحسوبين على الحكومة ووسائلهم الإعلامية وتلك المقرّبة منها الإيحاء بأن دمشق في موقع القوة وهي أصلاً بغنى عن قسد؟ أم أن السلطة تعتصم بالمكابرة ومنطق الاستعلاء لئلا تُغضب جمهورها المحقون؟ وبالتالي تُخفي المجريات عن العامة وتُبقيها فقط بين الطرفين، وبناءً عليه فهي تتعامل في هذا الخصوص كتعاملها مع ملف لقاءات مسؤوليها مع المسؤولين الإسرائيليين فيما سبق وفق The New York Times.
وفي إطار الاستمرار بتوتير الأجواء، فعندما فرضت بريطانيا منذ أيام عقوبات على قادة كتل عسكرية وثلاثة فصائل سورية مسلّحة كانت سابقاً جزءاً من الجيش الوطني وهي الآن جزء من جيش الدولة، ظنّ البعض بأن السلطة السورية الجديدة ستعمل على قصقصة أجنحة تلك الفصائل أو إقصائها أو ربما إرسالها إلى الصحراء، من ناحية لترتاح من انتهاكاتها، ومن ناحية أخرى لتجعلهم مصدّات وسواتر أمام تنظيم داعش، أو على الأقل ستقوم بنزع مخالبها وأنيابها وجعلها كالأسلحة شبه المعطوبة.
إلّا أن التحركات الأخيرة للفصائل المذكورة في محيط حيّي الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب واستهدافها الأحياء المكتظّة بالمدنيين بالدبابات كما كان يفعل الأسد مع معارضيه، تؤكّد بأن العقوبات الغربية القديمة والجديدة، وخاصةً الدفعة الأخيرة منها، لم تؤثّر قيد أنملة على قوّة أو تحرّك أو سطوة تلك الفصائل، بل على العكس، فيبدو أن العقوبات زادتهم شراسةً بدلاً من تحجيمهم أو شلّ تحركاتهم.
ومع أنه سبق واتُّخذت إجراءات مماثلة من قِبل الأميركيين والأوروبيين بحق الفئات العسكرية المذكورة، ومع ذلك لم تأخذ السلطة بها، فيا ترى هل عدم إيلائها أي اهتمام بتلك القوائم والإجراءات يعني بأن السلطة السورية تعتبر أن هذه العقوبات هي أمور روتينية لا أهمية لها؟ وأنه بخلاف المتوقع قد تزداد مكانة من لديه هكذا سجل دولي فاضح لدى السلطة، باعتبار أن صاحب السجل يتحدّى الغرب برمّته، ووفق ذهنية المتطرّفين الدينيين حتى الثمالة فإن من يتحدّى الغرب فهو صالح مهما كان قد أجرم ذلك الشخص أو الفصيل بحق الشعب السوري؟ أم أن القيادة الجديدة ترى نفسها مقياساً في هذا الشأن بما أنه سبق وكان اسم رئيس الدولة موجوداً على تلك القوائم، وبالتالي عوضاً عن التوبيخ أو المحاكمة تُعاملهم السلطة بكل توقير طالما كانوا ذوي ماضٍ مماثل؟
لا شك في أن هذا التصوّر إن كان صحيحاً فمعناه بأن السلطة الحالية قد تكون مستعدّة بأن تتساهل مع خلفية وممارسات أي فاتك أو مغتصب أو سفّاح، سواء أكان من السلطة السابقة أم من المجرمين الذين لفظتهم بلدانهم، وذلك طالما أنهم أعلنوا ولاءهم المطلق للسلطة الفتية. وبالتالي يعتبر أصحاب هذه التبريرات أن وجود هؤلاء المنبوذين من قِبل العالم الغربي ومنظمات حقوق الإنسان في صف السلطة أفضل بكثير من وجودهم في الجبهة التي ضدّها. وبناءً على ذلك الاحتمال فلا أمل يُلوّح في الأفق بشأن عملية الإصلاح أو تحقيق العدالة وإنصاف الضحايا، وعندها سيقول المواطن في سرّه إن السلطة في بلادنا بدلاً من السعي الحثيث للتخلّص من أرتال المجرمين قد تصبح ملاذاً آمناً للقتلة، وإن صحّت تلك التخمينات فنكون أمام حاضنة القراصنة وليست دولة القانون والمواطنة الحقّة التي خرج الطيف الأعظم من السوريين من أجلها.
ويبقى السؤال الذي يخطر على البال بشكل دائم حيال تراوح الأوضاع في مكانها هو: هل حقاً لا قدرة للحكومة السورية الجديدة على ضبط الفصائل المشار إليها في الأعلى؟ وأنه ليس بمستطاع الدولة فرض سلطانها عليها أو جعلها تنفّذ أوامر وزارة الدفاع، باعتبار أن الفصائل المذكورة لها جهة ما تتحكّم بها وتوجّهها كيفما تشاء بناءً على مصلحتها مع عدم مراعاتها مصلحة السوريين؟ أم أن قصة عدم تحكّم الوزارة بالفصائل المذكورة ليست حقيقية، إنما هي استراتيجية تستخدمها القيادة بناءً على توصيات مستشاريها، وذلك لكي تستمر من جهة في التضييق على قسد كي تخفّض سقف مطالبها إلى أدنى المستويات، ومن ثم مرغمةً مع إشارات الإرغام والتهديد تتخلّى قوات قسد عن معظم شروطها، ومن جهة أخرى تتنصّل السلطة من كل انتهاكات وجرائم تلك الجهات المسلحة أمام الرأي العام الغربي وحتى المحلي. أي بمعنى آخر، أنها قادرة على خنق الفصائل المذكورة ولكنها تسلّطها على قسد بغية الضغط والابتزاز لكي تقدّم قوات قسد المزيد والمزيد من التنازلات، وبنفس الوقت تستمر اللقاءات مع قادتها في الخفاء إرضاءً للأميركيين، ومن ثم لتقول السلطة لحاضنتها المنفعلة بأن قسد هي التي تستجدي التقرّب والعناق وليست دمشق التي تدعو قسد إلى الصلح والاتفاق.
ومع دوام هذه الأجواء الملغّمة والحبلى بالمفاجآت الضارّة أكثر من السارّة، يا ترى إلى متى سيطول أمد كتمان أمر تلاقي المختلفين فكرياً وسياسياً وعسكرياً وعمل اللجان بين الطرفين؟ ومتى يُفضح المستور ويخرج مضمون اللقاءات المخفية للعلن؟ وكم هو عدد المرّات التي ستُحاصَر فيها الأحياء السكنية وتُقصف بالأسلحة الثقيلة ويتم تقديم القرابين البشرية في الشيخ مقصود والأشرفية حتى ينتهي هذا الماراثون السري؟


