: آخر تحديث

عن أمنيات العام الجديد

2
2
2

في عتبة العام الجديد، ونحن نعدّ الثواني بقلوب مثقلة وعيون متعبة، يلوح شيء يشبه الدهشة: تلك الابتسامة الخجولة المرسومة على ثغر الناس، كأنها فعل مقاومة صامت في وجه ما مرّ بنا من أوجاع. فرحة لا تنكر الألم، لكنها لا تستسلم له. فرحة تولد من رحم الخسارات الثقيلة، من فقد الأحبة، من رحيل الأصدقاء الذين كانوا جزءاً من ذاكرتنا اليومية، ومن محنة ألمّت ببلدنا حتى بدت كأنها لم تُسجّل في كتب التاريخ من قبل. محنة لم تكتفِ بالأرواح، بل امتدت إلى الحجر، فخسرنا مدناً سورية كاملة، أبنية وأحلاماً، وسُوّيت بالأرض تحت وطأة الحرب، وكأن الجمال ذاته كان هدفاً مباشراً للخراب!

ومع ذلك، لم ينطفئ الرجاء. ما زلنا نُمنّي النفس بأن تتحقق بعض الأماني البسيطة، تلك التي يتطلع المواطن إلى رؤيتها متجسّدة على أرض الواقع، بالرغم من علمه المسبق بصعوبة الطريق ووعورته. فالأمل، في بلاد أنهكها التعب، لا يكون ترفاً بل ضرورة وجودية، ووسيلة للبقاء.

وإن كانت الذاكرة تخوننا أحياناً، فتخفّف من حدّة بعض الصور القاسية التي عاشها أهلنا في سورية المحبة، فإننا نتطلع بصدق إلى ما هو أبعد من ذاكرتنا الفردية. نتطلع إلى مستقبل أبنائنا، إلى جيلنا والجيل الذي يليه، حياة آمنة وسعيدة، قوامها الإخلاص والوفاء، وطيبة العلاقة بين الناس، ونبل المشاعر الصافية التي لا تتكلّف ولا تتصنّع. نرجو أن تكون هذه القيم ليست لحظة عابرة، بل نهجاً مستمراً، يعيش في تفاصيل الحياة اليومية بعفوية وصدق.

وفي سياق هذا التطلع، يلحّ في النفس تمنٍّ بسيط في شكله، عميق في دلالته: أن نرى ممثلي الشعب، الذين منحناهم أصواتنا ولوّثنا أصابعنا حباً وثقة، يمشون في شوارعنا، يدخلون محالّنا، يجلسون في مقاهي الطرق، ويأكلون من طعامنا الشعبي البسيط. لا لشيء، سوى لنتأكد أنهم بشر مثلنا، يلامسون ما نلامسه، ويشعرون بما نشعر به، ويتنفسون الهواء ذاته.

ومن الأمنيات أيضاً أن تتحرر العدالة من تسطيحها، وألا يُساوى بين المقصّر والمبدع، فالمساواة العمياء ليست عدلاً، بل ظلماً مقنّعاً. وأن يُكرّم أبناء الشهداء تكريماً حقيقياً، بفرص عمل كريمة، أو سكن، أو دعم مادي محترم، لا بمنح شكلية في الدرجات، فالعلم لا يُوهب، بل يُكتسب بالاجتهاد والتعب والموهبة، ولا يجوز أن يتحول إلى صدقة رمزية تُفرغ معناه.

ونتمنى، ليس لهذا العام فقط بل لأعوام طويلة مقبلة، ألا نتوحّد عند الشدائد وحدها. فلنجرّب وحدتنا في الفرح، في السلم، في البناء، وسنكتشف حينها أن للوحدة طعماً آخر، أكثر حلاوة وعمقاً، يفوق لذّة الطعام وألفة اللقاءات العابرة.

كما نتمنى أن تتوقف الأوهام الكبيرة، وأن تُسقط المسميات التي فقدت معناها، وأن تنظر الحكومات إلى المدن جميعها بعين واحدة من الاهتمام والغيرة، لا أن تُغدق على مكان وتترك آخر يئن بصمت. ونتمنى أن تتحرك السلطات بالهمّة التي يستحقها الشعب، لا بدافع الخوف أو "العين الحمراء"، بل بدافع المسؤولية الأخلاقية والوطنية.

وفي شأن المرأة، لعلّ من أصدق الأمنيات أن نكفّ عن الخطابات الفارغة حول حقوقها، وأن يتحول الكلام إلى فعل. فالمساواة لا تُمنح، بل تُمارس، وإذا استمر التهميش، فلن يبقى أمام المرأة سوى الصدام مع منظومة لا تريد أن ترى.

ونتمنى أيضاً أن نكون أكثر صدقاً مع أنفسنا ومع الآخرين. أن نقول الحقيقة، مهما كانت موجعة، وألا نختبئ خلف أقنعة المجاملة والخداع. أن نفي بوعودنا، وألا نسيء الظن، وألا نبدّل وجوهنا بحسب المصالح، فحبل الكذب، مهما طال، يبقى قصيراً.

العام الجديد، في جوهره، لا يختلف كثيراً عن الأعوام التي سبقته. هو زمن آخر، بوجوه جديدة أو قديمة، بنوايا تتغير أو تعيد إنتاج ذاتها. عام 2025 يرحل مثقلاً بالمتناقضات: بالأيتام، بالأرق، بالندم، وبالحسرة، لكنه يترك أيضاً صوراً جميلة، ومواقف إنسانية مدهشة، تذكّرنا بأن الحياة، بالرغم من قسوتها، لا تخلو من ومضات الضوء.

نرجو أن يكون العام المقبل أقل أسى، أكثر حباً ووئاماً وسلاماً. نرجو أن يتصالح المتناحرون، وأن تخفت الضغائن، وأن تلتف أيامنا بفرح يستحقه هذا الشعب المتعب.

نرجو أن يكون عاماً يفتح أفقاً بعيداً، قوامه المحبة الخالصة، والأمان، وعودة من أنهكهم القلق إلى حضن سورية، ليعيشوا، أخيراً، مثل سائر البشر: بطمأنينة، وكرامة، وأمل.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.