: آخر تحديث

كامل الشرقي… شاعرٌ وصانع مجلات

2
2
3

في ذاكرة الصحافة العراقية، وفي سجلّ الأدب العراقي، يظلّ اسم كامل الشرقي محفورًا بما يشبه الضوء: شاعرٌ جاء من النجف بروحٍ تشبه النخل؛ شامخًا، صبورًا، دافئًا، وحاملًا في داخله رغبة لا تهدأ بأن يجعل من الكلمة طريقًا إلى رسوخ الروح وعمق الرؤية.

وُلد الشرقي وفي داخله تلك الحساسية النادرة للغة، تلك القدرة على الإصغاء للموسيقى الخفية في الكلمات. قبل أن يكون صحفيًا، كان شاعرًا؛ يكتب كمن يودّ أن يسكب قلبه على الورق دون ادّعاء، فينحت القصيدة شجرةً ظليلة، ينتظر تحتها القارئ ليجد راحة من صخب الحياة.

لم تكن تجربة الشرقي مع الشعر مجرد هواية، بل كانت هوية. كتب نصوصه بلهجة الشغف، بنبرة تشبه خطوات العابرين على طرق الصحراء؛ قليلة الكلمات، لكنها تحمل عمقًا لا يُرى من النظرة الأولى.
في قصائده: الحنين رفيق دائم، والإنسان مركز الرؤية، والوطن ليس جغرافيا بل إحساسًا مستمرًا.

قبل أن يصبح اسمًا لامعًا في إدارة المجلات، كان صحفيًا شديد الإخلاص للمهنة. عرف مبكرًا أن الصحافة ليست جدرانًا تُملأ بالمواد، بل منظومة تنبض، تتحاور، وتؤثّر.

حين يُستعاد تاريخ الصحافة العراقية، تتقدّم «فنون» و«ألف باء» كعلامتين مضيئتين عبّرتا عن نبض البيت العراقي، حيث امتزج الفكر بالفن، والسياسة بالمجتمع، لصياغة وعيٍ قرائي متقد. وفي حضرة هاتين المجلتين، يتجلّى كامل الشرقي بوصفه العقل الصحفي الذي صاغ ملامحهما، بأسلوب خاص وروح مهنية مميّزة، مؤكِّدًا حضوره كقائد ناجح لمؤسسة صحفية وإدارية راسخة.

حين تولّى رئاسة تحرير مجلة «فنون»، حملها من كونها مطبوعة تقليدية إلى مساحة فنية حيّة. اهتمّ بجعلها نافذة على الإبداع العراقي، ومنصة للفنانين والكتّاب الشباب، وفضاءً مفتوحًا للصور والقصائد والملفات الثقافية. أدارها كمن يدير ورشة جمالية، تتلاقى فيها الحروف باللوحات، والفكر بالذائقة.

ثم جاء الفصل الأهم في مسيرته: رئاسة تحرير مجلة «ألف باء»، أحد أبرز المنابر الصحفية والثقافية في العراق. مع الشرقي، لم تكن «ألف باء» مجرد مطبوعة أسبوعية، بل كانت فضاءً معرفيًا يلتقي فيه الأدب بالسياسة وبالمجتمع، وأرشيفًا لحياة العراقيين اليومية، ومدرسة لكتّاب ومحرري جيل كامل. كان يختار الموضوع الصحفي كما يختار الشاعر مفرداته: بعناية، وبوعي، وبحسّ إنساني عميق.

وتدور الأيام، فإذا بي ألتقي الثلاثي: كامل الشرقي، وأمجد توفيق، ورافع دحّام الناصري – رحمهم الله – في مادة الإعلام الدولي، حين كنت أستاذًا في الإعلام بجامعة بغداد. كانوا طلبةً لا تعرف طموحاتهم التوقّف، ولا تحدّهم حدود، يكتبون مستقبلهم بأقلامٍ لا تعرف الكلل، ويثبتون أن العمر لا يوقف الطموح؛ فالحلم عندهم كان أكبر من السنوات، والطموح أوسع من قيود الزمن، وأن العمر، مهما امتدّ، لا يقف عائقًا أمام من يصرّ على أن يعيش كل يوم كأنه بداية جديدة. هكذا أدركت أن الإعلام، كما الحياة، لا يزدهر إلا حين يقترن بالطموح، وأن الطموح نفسه هو سرّ الشباب الأبدي الذي لا يشيخ.

إداريًا: يقف خلف الفريق لا فوقه. يراقب العمل من بعيد، يمنح الثقة قبل التعليمات، ولا يرفع صوته مهما اشتدّ ضغط الموعد أو ازدحم العدد. كان يؤمن أن المجلة ليست «منصبًا» بل «روح فريق»، وأن رئيس التحرير الحقيقي هو من يزرع الطمأنينة لا الخوف.

مهنيًا: كان دقيقًا في اختياراته، يؤمن بالكفاءة وبالحضور الثقافي، ويمنح الفرصة للشباب. يضع الملفات الكبرى بموضوعية نادرة، ويوفّق بين حسّ الشاعر في داخله وعقل الصحفي الذي يعرف قيمة الخبر ودقته.

ترك الشرقي بصمته في كل مجلة قادها، لا بالسياسة التحريرية فحسب، بل بالأخلاق المهنية التي صارت علامة تلازمه. تجلّى أثره في تحويل المجلة إلى مؤسسة ثقافية لا مجرد وسيلة إعلام، وفي دعمه المستمر للطاقات الجديدة، وفي قدرته على دمج الرؤية الفنية بالمعالجة الصحفية، ليجعل من صفحات المجلة وثيقة جمالية ومعرفية تبقى حتى بعد أن يُطوى العدد. لقد صنع «مدرسة» دون أن يعلن ذلك، مدرسة عنوانها: الكلمة مسؤوليّة… والإنسان هو محور كل نص.

إن أردنا تلخيص شخصية كامل الشرقي في سطر واحد، يمكن القول: هو الشاعر الذي دخل الصحافة دون أن يخلع قلبه عند الباب، فظلّ إنسانًا قبل أن يكون رئيسًا، وظلّ صديقًا للورق قبل أن يكون مديرًا للمكتب. هو رجل أدرك أن المجلة لا تُدار بالأوامر، بل بالروح، وهو، قبل كل ذلك، واحد من أولئك الذين مرّوا في المشهد الثقافي العراقي فتركوا وراءهم أثرًا دافئًا… أثرًا لا يُنسى.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.