: آخر تحديث

الزلفي بين الذاكرة والتنمية: مجتمع لا يغيب عن النداء

3
3
3

عندما نطالع تاريخ محافظة الزلفي، لا نقرأ صفحاتٍ من الوقائع فحسب، بل نلج وجدانًا جمعيًا صاغته قيمة سامية تُسمّى «الفزعة»؛ تلك الخصلة التي لم تكن يومًا شعارًا عابرًا، بل كانت فعلًا حيًا نابضًا، يسري في العروق كما يسري الماء في جذوع النخل. فما إن يُطلق النداء، حتى تنهض الهمم، وتلتئم الصفوف، وتستجيب الرجال استجابة الفطرة قبل الواجب؛ لإنقاذ من هدمٍ داهم، أو لحفر بئرٍ يُحيي الأرض والناس، أو لردّ الجراد عن مزروعاتٍ هي زاد العيش وعماد الاستقرار. مشاهد لم تُحكَ بوصفها أساطير، بل تناقلتها الأجيال كحقائق عاشتها المواقف العصيبة، وشهدتها العقود شاهدةً على معدنٍ لا يصدأ.

ومع مطالع النهضة الحضارية، لم تخفت تلك الروح، بل أعادت تشكيل ذاتها بلغة العصر وأدواته؛ فواصل أبناء الزلفي مسيرتهم بذات العزم، وساهموا في شق الطريق عبر النفود، ذلك الامتداد الرملي الصعب، ليُقرّبوا المسافة بين الزلفي والقصيم، في عملٍ لم يكن مجرد مشروعٍ هندسي، بل كان إعلانًا صريحًا عن إرادة جماعية تؤمن بأن تذليل الجغرافيا هو أول طريق الازدهار، وأن المبادرة حين تسكن النفوس تتحول إلى منجزٍ باقٍ.

ولم تكن إسهامات أهالي الزلفي حبيسة حدود محافظتهم، بل تجاوزتها لتسجّل حضورًا وطنيًا مشرّفًا في واحدة من أعظم لحظات التاريخ السعودي؛ إذ وقفوا إلى جانب الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن – رحمه الله – مشاركين في نقل السلاح والغذاء، وباذلين الأرواح حين اقتضى الواجب، في ملحمة توحيد الوطن. ومن هنا، فإن ما نراه اليوم من مواقف ومبادرات ليس طارئًا ولا مستغربًا، بل هو امتداد طبيعي لذلك الإرث الوطني المتجذر، الذي توارثته الأجيال كما يتوارثون القيم.

وفي الزمن الحاضر، تتجلى هذه الروح بوضوحٍ أكبر في الحراك المجتمعي المتسع، حيث تحتضن محافظة الزلفي أكثر من خمسٍ وثلاثين جمعية تطوعية، تُشكّل في مجموعها لوحةً نابضة من العمل المنظم، والشراكة الواعية، والتكامل مع القيادة الرشيدة، بما يعزّز الدور المجتمعي ويمنحه فاعلية في مختلف المجالات والمناشط.

وضمن مشاريع المملكة الطموحة لعام 2025، جاء إعلان إنشاء محطة قطار الزلفي لتلتحق بشبكة قطار الشمال، في خطوة تحمل دلالات أعمق من كونها مشروع نقل؛ إذ تعكس وعي رجال الأعمال وأفراد المجتمع بأهمية الاستثمار المسؤول، والعمل التطوعي المنظم، واستعدادهم لاسترخاص الثمين وبذله، من أجل تحويل الحلم إلى واقعٍ معاش، والطموح إلى بنية تحتية تصنع المستقبل.

وقد أُدرج مشروع محطة قطار الزلفي بعد استكمال الإجراءات الإدارية وتوقيع عقد إنشائه كشراكة استثمارية تعاونية بين الشركة السعودية للخطوط الحديدية (سار) والجمعية التعاونية للخدمات اللوجستية بمنطقة الرياض، وفق نظام البناء والتشغيل ثم التحويل (BOT)، ليغدو أحد المشاريع التنموية الاستراتيجية التي تعزّز الربط بشبكة النقل الوطنية، وتمهّد لمشاريع لوجستية واعدة.

ولا يقتصر أثر هذا المشروع على العائد الاقتصادي فحسب، بل يمتد ليطال البعد الاجتماعي والإنساني، من خلال توطين الوظائف، وتمكين الشباب، وخلق فرص عمل مستدامة، بما يجعله نموذجًا حيًا للاقتصاد الاجتماعي، الذي تتلاقى فيه التنمية مع الاستدامة، والطموح مع المسؤولية.

وهكذا تواصل الزلفي مسيرتها الواثقة… مجتمعٌ لا يكتفي بحفظ إرثه، بل يُحسن استثماره، ينبض بالحياة من الجماميل إلى محطة القطار، ومن الفزعة الأولى إلى تنميةٍ
لا تتوقف.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.