: آخر تحديث

الزحام في الرياض.. معادلة وعي

4
4
4

"الرياض العاصمة" هذه المدينة التي تنبض بالحركة والضوء، وتعيش كل صباح إيقاعا لا يشبه سواه، تكاد تختصر هذه الأيام في مشهد يومي واحد.. سيارات مصطفة كأمواج ساكنة، أصوات أبواق متقطعة، وسائقون تتنازعهم مشاعر الاستعجال والضجر في سباق مع عقارب الساعة.

ذلك الازدحام الذي أصبح اليوم جزءا من الذاكرة الحضرية للعاصمة لم يعد مجرد مشهد عابر، بل ظاهرة اجتماعية وصحية تستحق الوقوف عندها طويلاً.

حين نقضي ساعة أو أكثر في زحام خانق، وفي "مسافة قليلة" نعتقد أننا نخسر الوقت فقط، لكن الحقيقة أننا نخسر الهدوء، ونستهلك أعصابنا ومخزوننا النفسي دون أن نشعر.

هنا.. تشير دراسات عالمية إلى أن الأشخاص الذين يقضون أكثر من 90 دقيقة يوميًا في القيادة المزدحمة أكثر عرضة للإجهاد المزمن بنسبة تفوق 60 %، كما يزداد لديهم احتمال ارتفاع ضغط الدم واضطرابات النوم، بل وتزداد معدلات الغضب وردود الفعل العصبية، مما يؤثر على العلاقات الأسرية وجودة الحياة بشكل عام.

اليوم.. "الصحة النفسية" هنا لا تقل أهمية عن السلامة المرورية، فالطريق المزدحم لا يستهلك البنزين فقط، بل يستنزف الطاقة الداخلية للإنسان، ومع تكرار المشهد يوما بعد يوم، يتحول الازدحام إلى حالة ذهنية ترافقنا حتى بعد الوصول إلى الوجهة، فيؤدي إلى تدنٍ في التركيز والإنتاجية في العمل، وشعور دائم بالإرهاق حتى دون مجهود بدني يُذكر.

ومع ذلك، يجب ألا نغفل أن ما تشهده الرياض من زحام هو في جزء كبير منه انعكاس لنموها المتسارع، فالمشروعات العملاقة التي تنتشر في أرجائها، هي شواهد على مدينة تتغير لتصبح أكثر حداثة ونموا وتطورا.

لكن التحدي هنا هو إدارة هذا التحول دون أن يثقل كاهل السكان، فكل مدينة كبيرة تمر بمرحلة "عنق الزجاجة" قبل أن تنفتح على مستقبل أكثر انسيابية، والرياض اليوم في قلب تلك المرحلة.

في تقديري.. نحن لا نحتاج إلى طرقات جديدة بقدر ما نحتاج إلى حلول هندسية مرورية مبتكرة، فالمدينة توسعت أفقيا بما يكفي، لكن تدفق الحركة داخلها لا يزال تقليديا في كثير من المواقع.. المطلوب ليس الإسفلت الإضافي، بل الفكر المختلف المتجدد من أنظمة ذكية لإدارة الإشارات، إلى محاور مرورية دائرية تربط الأحياء دون المرور بالمراكز، مواقف متعددة الأدوار ذكية في المولات الكبرى، وتحسين معابر المشاة والدراجات لتقليل الاعتماد الكامل على السيارات.

نحتاج إلى التفكير الإبداعي في البنية التحتية، وليس التوسعة التقليدية التي لم تعد تواكب ديناميكية المدينة.

إن التعامل مع الزحام لا يقتصر على الجهات التنفيذية فقط، بل يمتد إلى سلوك الأفراد وطريقة إدارتهم لحياتهم اليومية، فاختيار مواعيد مرنة للعمل، أو اعتماد النقل العام، أو حتى استخدام الدراجات الكهربائية في المسافات القصيرة، هي ممارسات بسيطة لكنها تحدث فرقًا كبيرًا في المدى الطويل.

كما أن المبادرات الذكية، مثل أنظمة الإشارات المرورية المتكيفة وتطبيقات المشاركة في المركبات، تمثل جزءا من الحل الذي يعيد للمدينة تنفسها الطبيعي.

الازدحام ليس بالضرورة علامة فوضى.. في بعض الأحيان هو علامة حياة. فكلما ازدهرت المدن وتوسعت اقتصادياتها، ازداد الطلب على الحركة والتنقل. غير أن التحدي الحقيقي هو كيف نجعل هذا الازدحام منظما وصحيا، لا خانقا ومرهقا.

ورؤية السعودية 2030 وضعت جودة الحياة في صميم التحول الوطني، والرياض كونها القلب النابض للبلاد مطالبة هي كذلك أن تكون النموذج الأبرز في تحقيق هذا التوازن بين النمو الحضري والرفاه النفسي للسكان.

في نهاية المطاف، القضية ليست عن شوارع مزدحمة بقدر ما هي عن بشر يعيشون داخلها، فكل توقف في الطريق هو لحظة تنتظر حلا، وكل دقيقة ضائعة في الزحام هي مورد صحي يمكن استثماره فيما هو أجمل وأنفع.

في الختام؛ علينا أن ندرك أن المدن تقاس بجودة حياة سكانها، لا بسرعة سياراتها، وأن صحة الإنسان هي البوصلة التي يجب أن تُوجّه كل مشروع حضري وكل قرار تنموي.. هنا علينا أن نفكر ونبدع.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد