: آخر تحديث

العقل الناقص... العقل المخيف

2
2
2

بعض القراء الأعزاء افترض أن ما ورد في مقال الأسبوع الماضي يدحض حجة الذين أنكروا دور العقل في صناعة القيم، سواء أكانت دينية أم غير دينية. وقد ذكرت هناك أن العقل هو الذي مهد للإنسان طريق الإيمان، حين اكتشف التوحيد وانطلق منه لفهم الكون والطبيعة. فكيف اتكلنا على العقل في أعظم القيم وأعلاها، وأنكرنا دوره في الفرعيات وتفاصيل الحياة؟

إن التأكيد على محورية العقل وأهمية دوره لا يعني أن منكري هذا الدور جهلة أو متنطعون، فهم كغيرهم من أهل العلم، يتبعون منهجاً محدداً في الوصول إلى الحقائق، وعلى أرضية هذا المنهج أقاموا حججاً قد لا تُرضي مخالفيهم، لكنها ليست دون أساس. أقول هذا طمعاً في إقناع أصدقائي بالإنصاف، حين يجادلون بشأن فكرة أو يتخذون موقفاً. مجادلة الأفكار ليست حرباً مع المخالف. ومثلما أعطيتَ نفسك حقاً في تبني فكرة أو موقف من دون استئذان مخالفيك، فجدير بك - إن كنت محباً للعدل - أن تُقرّ لهم بالحق نفسه، دون نقص ولا تطفيف.

الذين أنكروا دور العقل في صناعة القيم الأخلاقية والدينية، لديهم نوعان من الحجج، بينهما تداخل واضح. النوع الأول خلاصته أن تلك القيم وظيفتها توجيه الإنسان نحو الكمال، فينبغي أن تصدر عن كامل... ونعلم أن العقل البشري ليس كاملاً ولا يدعي الكمال، فكيف يكون هذا الناقص صانعاً للقيم وميزاناً لقياس جودة الصناعة في آن معاً؟ هذا أشبه بجعل المدعي قاضياً، أو نظيراً لحبيب المتنبي الذي قال فيه: «فيك الخصام وأنت الخصم والحكم». هذه الرؤية شائعة بين الاتجاهات الدينية، التي تنادي بجعل تعاليم الوحي مصدراً وحيداً أو مرجعاً أعلى للقيم الدينية والأخلاقية. لكنهم يتساهلون في منح العقل دوراً كاملاً خارج هذا الإطار.

أما النوع الثاني من الحجج، فخلاصته أن عمل العقل يتسم - عموماً - بأنه تجريبي، يتعلم الصحيح بعد ارتكاب الخطأ. الحياة عموماً تجربة متصلة، تتألف من عشرات التجارب الصغيرة التي تشكل حياة الإنسان اليومية. أخطاء التجارب قابلة للاحتمال، ما دامت في إطار الحياة الفردية، أو حتى حياة عدد قليل من الناس. لكن هل يصح تحويل حياة البشرية كلها، أو حياة بلد بكامله، إلى موضوع لتجربة ذهنية أو مادية، يجريها شخص واحد أو بضعة أشخاص؟

كنت قد نقلت في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي القصة التي ذكرها برنارد ويليامز، الفيلسوف المعاصر، عن «جيم»؛ الرحالة الذي وضعته أقداره أمام خيار مرير: إما يقتل شخصاً واحداً دون ذنب كي ينجو 19 من رفاقه، وإما يمتنع فيموت الجميع. أورد ويليامز القصة في سياق نقده الفلسفة النفعية التي تعدّ الفعل صحيحاً (أو عادلاً) إذا حقق منفعة أعظم لعدد أكبر من الناس، ولو تضرر جراءه عدد قليل أو كان الضرر بسيطاً. مثل هذه القصة يتكرر كثيراً في الحياة العامة. وتحدث عن نظيرات لها مايكل والزر في مقالته الشهيرة «الفعل السياسي: مشكلة الأيدي القذرة» وقد عرضنا لبعض ما ذكره في مقال سابق. كما تحدث عن الموضوع نفسه مايكل ساندل في محاضرة شهيرة بعنوان: «ما الذي يصح فعله». والحق أن مواجهة هذا الخيار ليست بالأمر الهيّن، لكنه يمثل تجسيداً لنوع من التجارب الحياتية التي يواجهها الناس يومياً في إطار حياتهم الخاصة، ويواجهها السياسيون والعلماء حين يخوضون تجارب يتأثر بها ملايين الناس.

تُرى ما الذي ينبغي للرحالة أن يختار؟ أعلم أن كثيراً من الناس سيختارون قتل فرد واحد كي تنجو البقية. لكن هل هذا هو الفعل الصحيح؟ مثل هذه التجارب العسيرة التي تتداخل فيها مبررات عقلية وعاطفية وإرادات متباينة، هي التي تدعو الإخباريين إلى إعفاء العقل من هذه المهمة وإيكالها إلى قوة أعلى يقبل الناس جميعاً بخياراتها. هذه القوة هي الخالق سبحانه، أو قانون الطبيعة، أو أي قوة أخرى لديها «مسطرة» واحدة لا ترجّح أحداً على أحد حين تختار.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد