: آخر تحديث

المسؤولية الأخلاقية تطارد أوروبا

2
2
2

الاعتراف من قبل حكومات أوروبية بدولة فلسطين أتى على استحياء، وبعد شهور من التردد، وقد أصبح الضغط الشعبي مزعجاً، والصور المريعة عن الإبادة أصعب من أن تدارى، والمحكمة الجنائية الدولية تطارد بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، وجنود الاحتلال مهددون بالاعتقال بسبب الدعاوى حول العالم ضدهم. من على «أسطول الصمود» المتوجه إلى غزة، وجهت النائبة بالبرلمان الأوروبي ريما حسن كلمة قالت فيها، إن «الاعتراف بدولة فلسطين ليس سوى ثمن أجوف تستخدمه الحكومات الأوروبية المترددة والضعيفة، لتظهر لجمهورها أنها لا تلتزم الصمت». المحاكم الفضائحية التي عاقبت المتهمين بالجرائم النازية لم تنطفئ نارها بعد. البعض بات يفكّر برفع المسؤولية، ولو شكلياً، قبل أن يلقى العقاب نفسه، بعد حين.

كان بمقدور هذه الدول أن تنضم لمبادرة السلام العربية الجريئة منذ عام 2002، التي عرضت التطبيع الكامل مع إسرائيل مقابل انسحابها من الأراضي العربية، وتنقذ المنطقة من شلال الحروب. قبلها كان يمكنها أن تلتقط إعلان ياسر عرفات بقيام الدولة الفلسطينية من الجزائر عام 1988، واعتراف 78 دولة بينها الصين والهند والاتحاد السوفياتي وغالبية أفريقيا وتركيا، بالدولة الفلسطينية. حتى في عام 1993 مع توقيع اتفاقيات أوسلو كان بمقدورها أن تعطي دفعاً للسلام الذي تتباهى بتشجيعه، وتعلن اعترافها.

منذ عام 1947، كان يفترض من الدول التي دعمت وجنّدت ودربت العصابات الصهيونية للاستيلاء على فلسطين، لا سيما بريطانيا وفرنسا، وهي التي أسست الأمم المتحدة، ودفعت بقرار التقسيم، أن تحترم تلك القرارات وتؤيدها، لا أن تصفق لنصفها الذي يعجبها، وتدفن ما تبقى.

يأتي الاعتراف الأوروبي الذي لا تزال ألمانيا وإيطاليا وسويسرا وغيرها خارجه، متأخراً مائة عام، وتكفيراً متأخراً عن ذنب لم تعترف به أوروبا بعد. لكن ما بمقدورها أن تفعل أمام قتل الجوعى المروع، وتقارير المنظمات الإنسانية الفاضحة، وبعد أن أقرت تحقيقات الأمم المتحدة بارتكاب إسرائيل «إبادة جماعية»، و«تطهيراً عرقياً» و«تجويعاً متعمداً»، وقتل صحافيين وعاملين أممين.

أتى الاعتراف في اليوم نفسه الذي صدر فيه تحقيق أممي يؤكد أن إسرائيل سيطرت على ثلاثة أرباع غزة، وأن العمل جارٍ لضم 82 في المائة من الضفة الغربية، وعدد القتلى المجوعين يناهز المائة يومياً، وثمة اعتراف بأن ما يرتكب فاق أي جرائم عرفها تاريخنا الحديث.

وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش يكرر باستمرار أن ثمة حاجة إلى «تغيير الحمض النووي للضفة الغربية، كي نصل إلى نقطة اللاعودة»؛ أي القضاء التام على إمكانية قيام دولة فلسطينية، وهو أمر يسير على قدم وساق باعتراف الجميع، بمن في ذلك الحكومة نفسها.

في إسرائيل إجماع شعبي ورسمي على رفض فكرة الدولة الفلسطينية. الكنيست تبنى قراراً بالرفض العام الماضي. يائير لابيد الذي يقدم نفسه حمامة سلام، يعارض نهج نتنياهو الجلف لا النتيجة الكارثية؛ لأن حكومة فاعلة كان يمكنها أن تمنع بـ«الحوار السليم»، ما أسماه «أشد أزمة دبلوماسية في تاريخنا». ولابيد كما نتنياهو وغالبية مواطنيه، هذا الاعتراف بالنسبة إليهم «مكافأة للإرهاب».

التحقيق الأممي لا يفعل سوى تأكيد المؤكد، ويسجل أن «التعدي الإسرائيلي على كامل أراضي الضفة الغربية، وتهجير المجتمعات الفلسطينية، أصبحا هدفاً صريحاً، يتباهى به المسؤولون الإسرائيليون بفخر». أما الرأي الأميركي فمعلومٌ، عبّر عنه الموفد توم برّاك، المبعوث الأميركي الخاص إلى منطقتنا، مبشراً بأن «الكلام عن السلام وهم؛ لأن السلام لم يكن يوماً في المنطقة، ولن يكون على الأرجح؛ لأن ثمة طرفاً يقاتل من أجل السيطرة، وعلى الطرف الآخر أن يخضع. وفي هذا الجزء من العالم لا مرادف دقيقاً لكلمة (خضوع) بالعربية، لا يمكنهم أن يتقبلوا الموضوع».

الصراع مستمر كما يراه برّاك، والإبادة لن تتوقف غداً، وإسرائيل بدافع نشوتها بفائض القوة، ذاهبة حتى النهاية لتحقيق أهدافها التي ليس من بينها إقامة دولة فلسطينية، بل بالعكس قضم الدول المجاورة، وتحقيق حلمها بإسرائيل الكبرى.

إن كانت أوروبا حسنة النية فعلاً، وكي لا يصبح الاعتراض على خراب المنطقة برمتها متأخراً، بعد خمس أو عشر سنوات، يفترض أن تقرن اعترافها بالدولة الفلسطينية بإجراءات ملموسة، على غرار القرار الإسباني بقطع التعاون العسكري مع المعتدي. إسرائيل كي لا تكمل في لعبتها الدموية الشريرة، يجب أن تُقاطَع، أن تُنبَذ، أن تعاقَب كما أي دولة مارقة. صحيح أن الحب والاحتضان الأميركيين يكفيان إسرائيل، لكن أوروبا هي الحديقة الخلفية، هي الأم الأولى، والشريك التجاري الثاني، والمصدر الأساسي بعد الولايات المتحدة للمعدات العسكرية، لا سيما ألمانيا، والتعاون الأكاديمي في الأبحاث الأكثر حساسية التي غالباً ما ترفد الصناعات العسكرية، هذا عدا التعاون الاستخباراتي الوثيق، والمشاركة الحربية المباشرة، في القصف والتجسس والمواكبة.

الاعتراف بالدولة الفلسطينية خطوة في رحلة الألف ميل التي بات كل منها يكلف عشرات آلاف الأرواح، وأنهاراً من دماء الأبرياء.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد