فهد عبدالله العجلان
في المشهد الختامي من فيلم The Big Short (2015)، تتجوّل الكاميرا ببطء في غرفة شبه مظلمة، تتناثر فيها أوراق مالية فقدت قيمتها بعد الانهيار. يلتفت ستيف كاريل (Steve Carell) إلى زملائه، وصوته مثقل بالخذلان، قائلاً: «أتدرون ما الخطر الأكبر؟ أنه لن يصدق أحد حتى يفوت الأوان.» فيجيبه رايان غوسلينغ (Ryan Gosling) بابتسامة ساخرة تنضح بمرارة المنتصر الخاسر: «سيواصلون اللعبة.. الأدوات نفسها، القواعد نفسها، وكأن شيئًا لم يحدث.»
ذلك الحوار لم يكن مجرد مشهد درامي عابر، بل استعارة فلسفية عن مؤسسات ومجتمعات ترفض رؤية الشقوق في أساساتها حتى تتداعى فجأة، ويصبح الانهيار حتمًا لا مفر منه.
اليوم ينعكس هذا الدرس ضمنا في تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) «تحديث التجارة العالمية - سبتمبر 2025»، الذي يحذّر من أنّ غياب اليقين في السياسات التجارية قد غدا التهديد المركزي للاقتصاد العالمي. الأرقام تتحدث بجلاء: انخفض الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 11 % في عام 2024. وتوقّع أن يتباطأ النمو الاقتصادي العالمي إلى 2.3 % في 2025 بعد أن كان 2.8 % في العام السابق. ويشير البنك الدولي إلى أنّ حجم التجارة العالمية تراجع بنسبة 0.9 % في النصف الأول من 2025، وهو أشد انكماش منذ جائحة كوفيد-19.
أما التضخم فقد بلغ 6.1 % عالميًا وفق صندوق النقد الدولي (IMF)، في حين ارتفعت أسعار الغذاء بنحو 20 % في الاقتصادات الناشئة، وفي الاقتصادات المتقدمة، ومنها ألمانيا والولايات المتحدة، لامست البطالة حدود منتصف خانة الآحاد.
خلف هذه الأرقام تقبع قصص إنسانية دامية: متاجر صغيرة أغلقت أبوابها، فواتير طعام تتضاعف، أسر تكافح لتأمين قوت يومها.
والمفارقة قاسية: سياسات قُدّمت بوصفها دفاعًا عن الداخل تنقلب لتصيب الداخل ذاته! فالتعريفات الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة على الواردات الصينية والأوروبية أضافت نحو 1300 دولار سنويًا إلى تكاليف المعيشة لأسرة أمريكية متوسطة، وفق دراسة للبنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك عام 2019- وهو رقم ظل معبّرًا في جولات الرسوم اللاحقة. ما سُوِّق باعتباره «حماية» كان في جوهره ضريبة خفيّة على المستهلك الأمريكي ذاته.
ويُصرّ التاريخ على أن يذكّرنا بأنّ شلل المؤسسات يجرّ كوارث إنسانية باهظة. فالإمبراطورية الرومانية لم تسقط تحت سنان الغزاة بقدر ما تآكلت مؤسساتها من الداخل. وعصبة الأمم لم تفشل لأنها افتقرت إلى مبانٍ أو مقار، بل لأنها عجزت عن تجديد نفسها، فمهّدت لانفجار الحرب العالمية الثانية. أما الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، كما أشار الاقتصادي جون ماينارد كينز (John Maynard Keynes)، فقد طال أمده لأن الحكومات والبنوك المركزية ترددت في أن تؤدي دور «المُقرض الأخير»، فتركت ملايين البشر في طوابير الخبز.
وها نحن اليوم أمام مشهد يتكرر: الحروب التجارية ليست مجرد خلافات حول رسوم جمركية، بل صراعات وجودية على النفوذ. الخطاب السياسي يتزيّا بلباس حماية المصالح الوطنية، لكن الحقيقة أن المواطنين الأمريكيين-خصوصًا الأضعف منهم-هم من يتجرّعون الكلفة. كما قال بول كروغمان (Paul Krugman): «المشكلة ليست في الرسوم بحد ذاتها، بل في عدم القدرة على التنبؤ بها؛ ذلك ما يزعزع الثقة ويشلّ الاستثمار.» أما جوزيف ستيغليتز (Joseph Stiglitz) فكان أكثر صراحة حين قال: «الحروب التجارية في عالم معولم أشبه باللعب بالنار-الجميع يحترق، لكن المواطنين البسطاء في الاقتصادات النامية يحترقون أولًا.»
إنّ تقرير UNCTAD لا يدعو صراحةً إلى إنشاء مؤسسات جديدة، لكنه يرسل رسالة ضمنية لا تخفى: لا تستطيع دولة واحدة بمفردها أن تحمل أعباء الاستقرار العالمي.
لقد تجاوزت العولمة الأطر التي أنيط بها إدارتها، وكما أنّ السلام السياسي لا يقوم إلا على مؤسسات متعددة الأطراف جديرة بالثقة، كذلك السلام الاقتصادي. من دونها، ستتحوّل سياسات أحادية متقلّبة إلى ما هو أخطر من تباطؤ النمو: صدامات سياسية تُغذيها المظالم الاقتصادية.
إنّ الدرس من التاريخ ومن السينما واحد: المؤسسات التي تفشل في التجدد تنهار لا محالة، وسقوطها لا يدفع ثمنه من هم في قمة الهرم بقدر ما يدفعه المواطنون الأكثر هشاشة أمام الصدمات، فإذا لم يبادر العالم اليوم إلى ترميم الثقة بالتعددية، فإنه يخاطر بأن يكرر دورة الإنكار والكوارث.
وعمليًا، هناك ثلاث خطوات جوهرية لا بد منها:
1- إعادة تنشيط مؤسسات التجارة الدولية: وذلك عبر إصلاح آليات فض النزاعات في منظمة التجارة العالمية (WTO)، وزيادة شفافيتها، وإعادة توازن القوى بين الاقتصادات الكبرى والنامية. من دون هذا الإصلاح سيبقى النظام التجاري العالمي رهينة صفقات ثنائية هشة، بينما المطلوب منظومة متعددة الأطراف تضمن العدالة واليقين.
2- تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي داخل الدول: عبر سياسات مالية تعطي أولوية للدخل المنخفض والمتوسط، مثل دعم مباشر للأسر، وتوسيع نطاق التأمين ضد البطالة، وتمويل برامج التدريب وتأهيل رأس المال البشري، فالمواطن البسيط لا ينبغي أن يكون ضحية الحروب التجارية، بل يجب أن يجد مظلة تحميه من تقلبات الصراعات التجارية.
3 - توسيع التعاون الإقليمي والدولي في قضايا الغذاء والطاقة والنقل: عبر بناء تحالفات لتأمين سلاسل الإمداد الحيوية، وإنشاء مخزونات استراتيجية مشتركة للغذاء والدواء، وتطوير مشاريع بنية تحتية عابرة للحدود.
إنّ التعاون في هذه القطاعات هو ما يحدّ من هشاشة الاقتصادات في مواجهة أي صدمة عالمية جديدة، ويمنح البشر استقرارًا ملموسًا في معيشتهم.
إنّ المشهد الأخير من The Big Short لم يكن عن أزمة 2008 وحدها. بل كان مشهدا إبداعيا يعبر عن حاضر الاقتصاد العالمي اليوم. ما زال الكبار يلعبون بالقواعد ذاتها، ويتمسكون بأوهام السيطرة، فيما تتسع الشقوق تحت أقدامهم وأقدام الاقتصاد العالمي كله. وما لم يأت الإصلاح، فقد تتحقق نبوءة كاريل مرة أخرى: «لن يصدقوا حتى يفوت الأوان»!