: آخر تحديث

تأجيل الوالدية وتأخر الزواج في المجتمع السعودي: إستراتيجيات لتعزيز التوازن الاجتماعي

2
2
2

يشهد المجتمع السعودي تحولات عميقة في الزواج والوالدية، حيث يختار الشباب التأجيل لتحقيق طموحاتهم التعليمية والمهنية، ما يطرح تحديات واستراتيجيات جديدة لتعزيز التوازن الاجتماعي.

تشير البيانات الحديثة إلى أن الشباب في المملكة العربية السعودية يختارون تأجيل الزواج والوالدية كجزء من ترتيب أولويات حياتهم بما يتناسب مع أهدافهم التعليمية والمهنية والشخصية. هذا التأجيل لا يقلل من قيمة الأسرة أو الأبوة والأمومة، بل يعكس حرص الشباب على تحقيق الاستقرار الذاتي والتمكين الشخصي، مع الالتزام بالقيم الاجتماعية والثقافية للمجتمع السعودي، واستثمار فرص التعلم والتطوير المهني والشخصي التي يوفرها العصر الرقمي.

يبقى الإطار القيمي والدستوري للمملكة واضحًا وصارمًا، حيث تنص المادة الأولى من النظام الأساسي للحكم على أن المملكة دولة عربية إسلامية ذات سيادة، دينها الإسلام، دستورها القرآن والسنة، وأن الأسرة هي نواة المجتمع.

هذا النص يعكس فلسفة الدولة ورؤيتها تجاه الأسرة باعتبارها ركيزة أساسية لاستقرار المجتمع وتنميته.

ومن ثم، فإن أي تحول في سلوكيات الشباب المتعلقة بالزواج أو الوالدية يجب أن يُفهم في سياق الموازنة بين الطموحات الفردية من جهة، والحفاظ على تماسك المجتمع والأسرة من جهة أخرى.

في ضوء هذه التحولات، يمثل تأجيل الزواج والوالدية موضوعًا اجتماعيًا وديموغرافيًا ذا أهمية لصناع القرار.

وتشير بيانات الهيئة العامة للإحصاء لعام 2024 إلى أن معدل الخصوبة الكلي في المملكة قد بلغ حوالي 2.7 مولود لكل امرأة، مع ارتفاع متوسط سن الزواج في المناطق الحضرية إلى نحو 30 عامًا، ويصل أحيانًا في المدن الكبرى إلى أواخر الثلاثينيات أو بداية الأربعينيات.

هذه المؤشرات توفر أساسًا لتحليل التغيرات السكانية ووضع سياسات تدعم الشباب والأسرة بما يتماشى مع رؤية المملكة المستقبلية.

تكشف الدراسات الاجتماعية الحديثة، مثل ما نشر في مجلة شؤون اجتماعية (2022، 2023)، أن قرار الشباب بتأجيل الزواج أو الإنجاب ينتج عن مجموعة من العوامل المتداخلة، بما في ذلك السعي نحو الاستقلال المالي والاستقرار المهني، والتطلعات الاجتماعية تجاه الشريك، والموازنة بين المسؤوليات الأسرية وتحقيق الطموحات الشخصية.

هذه العوامل طبيعية وتظهر في مختلف المجتمعات، وتدعو إلى تصميم سياسات محلية تمكّن الشباب من تحقيق طموحاتهم مع الحفاظ على التوازن الأسري والاجتماعي.

تتأثر قرارات الشباب بتأجيل الزواج والوالدية بعدة عوامل ثقافية واجتماعية واقتصادية وإعلامية.

فوسائل التواصل الاجتماعي تتيح الاطلاع على تجارب متنوعة ونماذج مختلفة للعلاقات الأسرية، ما يساعد الشباب على تكوين فهم أوسع لطبيعة الحياة الأسرية. هذه المنصات ترفع الوعي حول التحديات والمسؤوليات المرتبطة بالزواج والوالدية، بما يعزز اتخاذ قرارات مدروسة تراعي قدراتهم وظروفهم الشخصية.

في هذا الإطار، تمثل التغيرات في معدلات الإنجاب موضوعًا عالميًا يحظى باهتمام صناع السياسات لدراسة تأثيراته المستقبلية على القوى العاملة واستدامة المجتمع. ويمكن مراجعة التجارب الدولية المختلفة لاستلهام أفضل الممارسات في الدعم الأسري وتعزيز السياسات المحلية.

على سبيل المثال، أظهرت بعض الدراسات في دول مثل السويد أن السياسات الداعمة للأسرة، بما في ذلك إجازات الأبوة والأمومة وبرامج التحفيز المباشر للأسر، أسهمت في زيادة معدلات الإنجاب.

مثل هذه التجارب العالمية يمكن الاستفادة منها لتقوية البرامج المحلية بما يعزز استقرار الأسرة والتوازن الديموغرافي، مع مراعاة خصوصية واحتياجات المجتمع السعودي.

إن هذه التحولات الاجتماعية المعقدة تضع صناع القرار أمام تساؤلات استراتيجية: كيف يمكن تحقيق التوازن بين حرية الأفراد في التخطيط الأسري وبين متطلبات الاستدامة الديموغرافية للمجتمع؟

وكيف يمكن المواءمة بين تمكين الشباب من تحقيق تطلعاتهم الفردية وضمان استمرار مسؤولياتهم تجاه الأسرة والمجتمع؟

هذه الأسئلة تمثل جوهر النقاش حول مستقبل البنية السكانية للمملكة وأثرها على التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

في هذا السياق، تبرز رؤية المملكة 2030 كإطار شامل يمكن أن يُستفاد منه لمعالجة القضية.

فقد نجحت رؤية المملكة 2030 في إطلاق برامج ومبادرات ملموسة كان لها تأثير مباشر على استقرار الأسر، مثل برنامج سكني الذي أسهم في رفع نسبة تملك المساكن إلى أكثر من 65%، إضافة إلى حساب المواطن الذي وفّر مظلة دعم مالية خففت من الأعباء على الأسر محدودة ومتوسطة الدخل.

هذه المبادرات تثبت أن التدخل الحكومي المدروس قادر على تعزيز استقرار الأسرة ودعم الشباب في اتخاذ قراراتهم الشخصية.

استنادًا إلى برامج ومبادرات الرؤية، تُعزز الجهود القائمة من خلال حزمة مبادرات متكاملة تشمل الأبعاد المالية والاجتماعية والتنظيمية، وتُسهم في دعم استقرار الأسر وتمكين الشباب، بما يحقق أثرًا ملموسًا ومستدامًا في حياتهم.

أولًا: البعد المالي – يمكن توسيع برنامج سكني للعرسان ليشمل تقديم قروض سكنية بدون فوائد للمتزوجين حديثًا خلال أول عامين من الزواج، للأسر ذات الدخل المنخفض، لتخفيف الضغوط المالية المبكرة وتشجيع الشباب على الزواج في أعمار أصغر، كما يمكن إطلاق برنامج دعم مباشر للأبناء من خلال منح إعانة شهرية تتراوح بين 500 و1000 ريال لكل طفل دون سن السادسة، تُربط بالالتزام بالرعاية الصحية واللقاحات الدورية، بتغطية سنوية مناسبة عبر صندوق التنمية الاجتماعية، بما يعزز نمو القوى العاملة المستقبلية.

ثانيًا: البعد الوظيفي والتنظيمي - يمكن توسيع نطاق سياسات مرونة العمل لتشمل حوافز عملية للوالدين، مثل السماح بالعمل عن بُعد ثلاثة أيام أسبوعيًا للأسر التي لديها أطفال دون سن الخامسة، ودعم الشركات التي تؤسس حضانات في مقراتها أو بالقرب منها، بما يسهم في تخفيف أعباء الرعاية وزيادة الإنتاجية.

ثالثًا: البعد الاجتماعي والثقافي - عبر إطلاق حملة وطنية رقمية بعنوان مثلاً «نبض الأسرة» لإعادة صياغة صورة الزواج في وعي الشباب كشراكة متوازنة تحترم الهوية الفردية وتعزز القيم المحلية، تشمل محتوى رقميًا تفاعليًا ودورات تدريبية في الإعداد النفسي والاجتماعي للزواج.

رابعًا: البعد البحثي والاستراتيجي - من خلال إنشاء مرصد ديموغرافي وطني لرصد مؤشرات الزواج والإنجاب وإصدار توصيات سنوية تدعم صياغة سياسات سكانية مستجيبة للتحولات الاجتماعية، بما يعزز استدامة الأسرة والتوازن الديموغرافي.

دعم الأسرة السعودية يمثل ركيزة أساسية في استراتيجية التنمية الوطنية، وهو استثمار طويل الأمد في رأس المال البشري يضمن استدامة التوازن الاجتماعي والديموغرافي.

ومن خلال السياسات والمبادرات التي تنفذها الدولة وفق رؤية 2030، يمكن تعزيز الطموحات الفردية للشباب مع الحفاظ على الأسرة كنواة أساسية للمجتمع والتنمية، بما يحقق استقرارًا مستدامًا وفرصًا متكاملة لجميع أفراد المجتمع.

** **

- متخصصة في السياسات والتخطيط الاجتماعي

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد