: آخر تحديث

هل العقل كافٍ لإنتاج القيم والأحكام؟

3
3
2

النقاش الدائر بشأن «أصنام العقل» الأربعة، الذي عرضنا طرفاً منه في الأسبوعين الماضيين، محركه سؤال محوري، شغل بال المفكرين قروناً متطاولة. فحوى السؤال: هل يمكن الاعتماد التام على العقل في إنتاج القيم الأخلاقية؟

أفترض أن غالبية الناس سيضحكون ساخرين. ولعل بعضهم يقول: إن لم نثق بالعقل، فما الذي نثق به؟ وهل توجد وسيلة أخرى لإنتاج المعرفة والمعنى غير العقل؟

الحقيقة أن أناساً آخرين قد أجابوا فعلاً، قائلين إنه يوجد مصدر آخر أعلى من العقل، أو إن العقل بحاجة إلى ميزان يرجع إليه كي يتحقق من صحة أحكامه.

من الواضح أن الشكَ في كفاية العقل راجعٌ إلى وجود عوامل تؤثر عليه، فتجعله منحازاً في أحكامه أو متعثراً في فهمه الموضوعات. إن «أصنام العقل» المذكورة مثال على تلك العوامل التي تأخذ العقل بعيداً عن الصواب. وقد أسلفنا القول إن بعضَها كامنٌ في الإنسان نفسه، وبعضها في محيطه الثقافي - الاجتماعي، وهي تتعاضد في توجيه العقل نحو مسارٍ محدد؛ منحازٍ غالباً، وبالتالي فلن نتيقن من سلامة ما يتوصل إليه.

نعرف من الفلسفة القديمة رؤية سقراط وتلاميذه، التي أقامت منظومات الأحكام والقيم على أرضية القانون الطبيعي. وخلاصة هذه الفكرة أن العالم نظام متقن، تتحرك أجزاؤه في مسارات دقيقة، كي تحقق غاياتٍ وأغراضاً ذات أهمية لحياة البشر. هذه الغايات هي التي تضفي على النظام قيمته وهي التي تخبرنا حقيقته.

انطلاقاً من هذه الرؤية، قالوا إن أفضل نظام اجتماعي هو الذي يستلهم مسارات النظام الكوني وأغراضه. بعبارة أخرى؛ إننا نحكم بصحة المعارف التي ينتجها العقل إذا تلاءمت مع نظام الطبيعة الذي نعرف سلفاً أنه صحيح وكامل.

بالمقياس نفسه، فقد افترض هذا التيار الفلسفي أن القيم الأخلاقية الكبرى موجودة في نظام الطبيعة، من قبل أن يتوصل إليها الإنسان؛ لأن «الأخلاق» في أبسط صورها هي «الملاءمة بين ما يريد الإنسان فعله، وما ينبغي له فعله»، أي بين الصورة الواقعية والصورة النموذجية للفعل. هذه الصورة النموذجية هي التماثل التام مع متطلبات النظام الطبيعي. من هنا قالوا إن العقل لا ينتج القيم الكبرى والأخلاقيات، بل يستمدها من النظام الطبيعي.

انتقلت هذه الرؤية إلى المجتمع المسلم حين انفتح على علوم الأمم الأخرى. وقد أثرت بقدرٍ ما. لكن المفكرين المسلمين طوروا نموذجاً بديلاً، حين أضافوا الوحي مصدراً للمعرفة والأخلاقيات، وقللوا بقدرٍ ما من دور النظام الطبيعي. ثم انقسم الفكر الإسلامي إلى اتجاهين: اتجاه «أخباري» شدد على محورية الوحي ونصوصه الصريحة. واتجاه أعلى من شأن العقل، وربما قدّمه على نصوص الوحي. وأبرز رموز هذا الاتجاه هم «المعتزلة» الذين قالوا إن العقل دليل كامل، ولولاه ما عرفنا الله ولا وجوب طاعته، ولا عرفنا ضرورة الرسل وصدق الرسالات. إن الله خلق العقل وجعله رأس كل الموجودات في العالم، وأرجع إليه قيمة الإنسان. فالإنسان العاقل هو المخاطَب بأوامر الله وتعاليمه، وهو خليفته في أرضه. كما قالوا إن الخلق والرزق والعقائد وأحكام الشرع... ترجع، في منطلقاتها وبنيتها ومبرراتها، إلى قواعد علمية أو منطقية يقبلها العقلاء. ولذا؛ فـ«العقل مصدر منفرد للتشريع». ولتبرير هذا الرأي الخطير، توسعوا في التأسيس المنطقي لقاعدة «التحسين والتقبيح العقلِيَّين». وخلاصتها أن كل فعل بشري ينطوي في ذاته على قُبح أو حُسن، قابلَين للإدراك بواسطة العقل. فإذا تعرف العقل على حُسن الفعل أو قُبحه، بات قادراً على الحكم بالمكافأة أو العقاب. وهذا هو جوهر فكرة الأمر والنهي الإلهيين.

هذا ما اتسع له المقام اليوم، وآمل أن نعرض رؤية الأخباريين، والمرحلة الأوروبية، في مقبل الأيام.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد