مع شدّة التحوّلات الإقليمية؛ وتفشّي حالة التآكل في مؤسسات وكيانات دول، يُطرح النقاش اليومي بشأن «النموذج المنشود»، خصوصاً بشأن إدارة الواقع المعيش، وتدبير شؤون الدنيا، وسوْس الناس، وإدارة مصالح الدولة.
البعض يتمسّك بأطروحاتٍ قديمة تعارض المدنيّة وتعادي النماذج التنموية... بل وترسخ لحُكم الآيديولوجيا ولزعامة الميليشيا ولمرجعية التنظيم.
في المقابل، يصرّ العقلاء والحكماء في البلدان المنكوبة على ضرورة استلهام التجربة البشرية في العصور القريبة والقديمة، واختبار ما تبقّى من مفاهيم فعّالة، ومن بينها مفهومٌ عتيد، وأعني به «الحداثة».
نعم، يمكن للحداثة بفضائها أن تسهم في خلق خياراتٍ اجتماعية وفكرية، وأن تكون شريكةً في رسمٍ تحوّل مشرق. وحدها «الحداثة» قادرة على فكّ شيفرة التأقلم مع الدنيا، وطرح وسائل أفضل مدنيّةً للعيش داخل صرعات العلم وامتداد العالم.
و«الحداثة» تشرح نفسها تبعاً لتبيئتها في أي مجتمع، فهي ليست نموذجاً متكاملاً مقدّساً، وإنما لها عناوينها الرئيسية. من الطبيعي تجدد النقاش بشأن سؤال «الحداثة»؛ وهل هي «حالة أوروبية» أم يمكن لدولٍ شرقيّة أن تستفيد من مخرجاتها وفتوحاتها؟!
لعلّ أبرز من لخّص هذه الفكرة وبشكلٍ متميز الأستاذ جورج طرابيشي، وخلاصة فكرته بشأن تبيئة «الحداثة» كالتالي:
يعدّ طرابيشي أن «الحداثة، ابتداء من الربع الأخير من القرن الثامن عشر، لم تَعُد أوروبية خالصة... فقد بات لها، منذ حرب الاستقلال، امتداد أميركي، مثلما سيكون لها، بعد عصر الميجي في اليابان، امتداد آسيوي. ولكن هذه الامتدادات، التي تنحو إلى أن تكون عالمية أكثر فأكثر، لا تلغي واقعة التطابق الفريد بين (الحداثة) و(أوروبا). فعلى مدى قرون ثلاثة على الأقل، بقيت الحداثة واقعة جغرافية، أي محصورة في أوروبا».
ثم يحلل بأن «هذا الانبثاق التاريخي للواقعة الجغرافية الأوروبية بتوسّط الحداثة هو ما جعل عمانويل تود، المؤرخ والأنثروبولوجي والسوسيولوجي الفرنسي المعاصر، يختار لدراسته عنوان (اختراع أوروبا 106). فلكأن أوروبا لم تكن، بمعنى من المعاني، موجودة قبل القرن السادس عشر».
بل يرى أن «الحداثة نتاج مركّب ساهمت فيه، فضلاً عن الأقطار الأوروبية الثلاثة الكبرى، الأمم المتوسطة الحجم مثل إيطاليا، والصغيرة الحجم مثل هولندا والسويد. بل إذا أخذنا في (الاعتبار) أن الثورة التعليمية اقترنت، (كشرط وكنتيجة) معاً، بثورة لاهوتية، فسنلاحظ أن دور الأمم الأوروبية الصغرى في مولد الحداثة كان فاصلاً: فهولندا وسويسرا والسويد كانت من المراكز المتقدمة للثورة البروتستانتية».
ولا ينتهي طرابيشي عند مفهوم «الحداثة»؛ بل عرَض لمفهوم لم يأخذ طريقه إلى التبيئة وهو «العلمانية»؛ المصطلح الذي ما فتئ يُعامل - كما يقول - منذ لحظة اكتشاف وجوده، معاملة «القريب الفقير».
ويمكنني أن أعلّق على تحليل طرابيشي بنقطتين منطلقتين من الواقع الحالي:
الأولى أن «الحداثة» ليست لغزاً أو سحراً، بل هي ماثلةٌ أمامنا في تطبيقات الدول التنمويّة الصاعدة؛ حداثة في القوانين التي تتماشى مع تطوّر العصر، والتعددية الدينية، والتنوّع العرقي والإثني، ومن ثم حداثات أخرى على مستوى الطبابة والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والعمران، وحداثة اجتماعية تؤسس لنمطٍ محكم يوائم بين الإرث المحمود، وينخرط بقوّة في فتوحات الحداثة والتجديد.
والنقطة الثانية أن «الحداثة» ليست خطّة هندسية، ولا معادلة رياضية، ولا نظرية فيزيائي. إن أفضل تعريفٍ لـ«الحداثة» هو ألا تُعرّف. ما من تعريفٍ متفَق عليه، والتخويف منها فيه جورٌ وجهل، فالحداثة في سنغافورة غيرها في إيطاليا، وفي كوريا الجنوبية غير الحداثة في فرنسا... وهكذا.
الخلاصة أن القلق المنتشر حالياً لدى بعض المجتمعات في الإقليم بشأن «النموذج المقبل» يجب أن يحلّ في درس تجارب الدول القريبة والبعيدة. وأتيتُ بمفهوم «الحداثة» هنا لأثبت أن ثمة مفاهيم لا تزال «شغّالة» وفاعلةً يمكن أخذ الطاقة التنموية منها، والقلق بشأن «النموذج المقبل» لدى الدول المنكوبة طبيعي، ولكن الخطر في الركون إلى نماذج أحادية، أو إلى آيديولوجيات ظلامية.